فقدان التوازن السياسي الرابع للأمة

04:54 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبر أكثر من قرن ونصف القرن والأمة العربية، وبالتالي مجتمعات وطنها العربي، تعيش حالة انعدام الوزن السياسي . إبًّان ذلك الزمن الطويل مرّت في أربع محاولات لاستعادة ذلك التوازن الضروري لكل عملية نهوض . وفي كل مرة تنتهي المحاولة بحصاد لايكفي لعملية النهوض والتحديث الذاتي . دعنا نفصِّل باقتضاب شديد ما نعني بذلك .

بدأت المحاولة الأولى في القرن التاسع عشر، عندما حاولت مجموعة من المفكرين الإصلاحيين الإسلاميين، أمثال محمد عبده والأفغاني والطهطاوي والكواكبي وغيرهم، طرح مشروع قراءة جديدة للدين الإسلامي لإخراج بلاد العرب والمسلمين من التخلف الفقهي والحضاري . كانت محاولة فكرية إسلامية للتحرير من نير الاستعمار من جهة وللخروج من سبات القرون إلى ألق العصر من جهة ثانية .

لكن تلك المحاولة توقَّفت في منتصف الطريق ولم تقُد إلى مشروع سياسي يقلب الأفكار إلى فعل، فكان من السهل الانتقال إلى المحاولة الثانية التي تمثلت بدعم من قوى الاستعمار الغربي ومن بعض المفكرين، في تقديم المشروع الليبرالي بوجهيه الاقتصادي الرأسمالي والسياسي الديمقراطي التمثيلي البرلماني .

لقد أريد لتلك المحاولة أن تتعايش مع إقطاع زراعي وتحالف قبلي عائلي مالي، فكان أن تشوَّهت وأصبحت مظهرية مزوًّرة، ففقدت المجتمعات العربية أملها في تلك المحاولة، الأمر الذي هيأ لقبول المحاولة الثالثة المتمثلة في انقلابات عسكرية متتالية جاءت تحت مظلة المشروع القومي العربي، فكراً وممارسة .

لقد كانت المحاولة الثالثة واعدة وفاعلة في الواقع السياسي العربي بسبب وجود فكر سياسي معقول يقف وراءها، وأحزاب وحركات سياسية تناضل من أجل تحقيقها، وقيادات تاريخية، من مثل الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، تجيش الجماهير لدعمها . لكن التكالب الصهيوني والاستعماري من جهة وبعض الأخطاء المرتكبة من جهة ثانية، أدّيا إلى التراجع المعروف لتلك المحاولة، الأمر الذي أوجد فراغاً سياسياً في حياة الأمة كان لا بد من ملئه، فكان أن دخلت الأمة في المحاولة الرابعة .

المحاولة الرابعة هي التي تعيشها الأمة العربية، عبر الوطن العربي كله، حالياً . إنها خلط من فعل ثوري كما حدث في تونس ومصر مثلاً، ومن صعود مفاجئ للإسلام السياسي . وكما كان الحال مع المحاولات الثلاث السابقة، فإن المحاولة

الرابعة تواجه المشاكل والأهوال الخارجية والداخلية .

أما الخارج فلا يحتاج إلى تبيان . فالمحاولة الرابعة تواجه الصهيونية التي تسعى بكل قواها لتدميرها، وهي تواجه الاستعمار الغربي الساعي لوضعها تحت جناحية، وهي تواجه قوى إقليمية تسعى لأن تهيمن على مسارها .

لكن الإشكالية الأكبر تكمن في الداخل . فالإسلامي السياسي منقسم على نفسه في ما بين وسطية قليلة الخبرة والكفاءة وغير مهيًّأة للقيام بقيادة تاريخية، وبين سلفيه متزمته مهووسة بالقشور من الأمور، وبالتراجع التاريخي العبثي وبين جهادية انتحارية تقتل الأبرياء وتسهم في تدمير المجتمعات . هذه الوجوه الثلاثة للإسلام السياسي، المتصارعة فيما بينها، غير القادرة على قيادة الزخم الثوري الذي تعيشه المجتمعات العربية، مع العجز المفجع عند القوى الثورية الشبابية في الانتقال من الفعل الثوري الى المشروع السياسي . . هذا كله بدأ يفعل في الإنسان العربي العادي فعله، إذ هناك بوادر فقدان للأمل وشكوك في إمكانية نجاح المحاولة الرابعة .

النتيجة هي أننا في بدايات دخول الأمة في دورة فقدان للتوازن السياسي، وبالتالي فقدان للقدرة على الاختيار، اختيار مسار سياسي واضح المعالم تجتمع من حوله كتلة جماهيرية كبيرة، تؤمن به وتناضل من أجله، وتطمئن إلى أنه سيقودها إلى مستقبل نهضوي حداثي ذاتي . من هذه الأهمية القصوى لوجود الكتلة التاريخية التي ستعمل من أجل بلورة ذلك المسار للأمة، ومن أجل تنظيم القوى للعمل في سبيل إنجاحه ومن أجل إرجاع الأمل إلى النفوس . وهذا حديث المقال القادم .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"