الحج في الإمارات قديماً .. رحلة على جناح الشوق والخطر

أهازيج وولائم وبيارق
02:29 صباحا
قراءة 5 دقائق
الشارقة: «الخليج»
من أبرز مظاهر الاحتفالات الشعبية التي رسخت في ذاكرة الإماراتيين، وتوارثوها منذ زمن بعيد؛ الاحتفال بالذهاب إلى الحج والعودة منه؛ إذ استمرت هذه الرحلة المحفوفة بالشوق والخطر، بما يحيط بها من طقوس، من العلامات التراثية البارزة. فالاحتفاء بذهاب الحجيج وعودتهم كان، ولا يزال، جزءاً أصيلاً من طقوس أداء الفريضة، لدى الشعب الإماراتي، بما يتضمنه ذلك من عادات وتقاليد خاصة بوداع قاصدي بيت الله الحرام، واستقبال العائدين بعد أداء الفريضة، وتشمل هذه العادات والتقاليد أهازيج وأكلات شعبية، وولائم وأعلاماً وشارات، شكلت إرثاً باقياً في الوجدان الإماراتي.
لأداء فريضة الحج، والركن الخامس من أركان الإسلام، كان الآباء والأجداد يتحملون مشاق السفر عبر الصحراء على ظهور المطايا، أياماً متواصلة لبلوغ بيت الله الحرام وأداء الفريضة، وكذلك الأمر في رحلة العودة، بما يكتنف الرحلتين من مصاعب جسيمة تستمر لما يقارب 5 أشهر. وذلك قبل أن تتغير الظروف بتطور الزمن، وانتشار وسائل المواصلات الحديثة التي أسهمت في تغيير صورة رحلتي الذهاب والعودة، من حيث تخفيف مشاق السفر ومصاعبه، واختصار الوقت من أشهر إلى ساعات، لكن الذي لم يتغير هو الاحتفاء والاهتمام والفرحة المرتبطة بهذا الموسم، والاحتفال بوداع واستقبال من أدى هذه الفريضة.
كان موسم الحج عند الحجاج الإماراتيين قديماً، يبدأ قبل عدة أشهر من موعده المحدد، فتجهيز القوافل المتجهة إلى بيت الله، وتزويدها بالمتاع يعتبر من الخطوات الرئيسية لبداية الانطلاق، فالطريق إلى مكة، حيث المشاعر المقدسة، طويلة على ظهور الدواب التي تنهب الأرض، تحمل أشواق المحبين إلى أرض هي مهوى أفئدتهم، وأفئدة المسلمين حول العالم، يمنون أنفسهم طوال العام بهذه الرحلة، وفاء وأداء للفريضة المقدسة التي كان الإماراتيون يحرصون عليها مهما كانت المصاعب والمشاق.
في الماضي كانت رحلة الحج تستغرق ما بين أسابيع وأشهر، فوسائل النقل المتاحة كانت الإبل والخيل والبغال والحمير، وكان الحجيج عرضة للقتل، وقوافلهم هدفاً للنهب والسلب، من قطاع الطرق الذين لايراعون حرمة. فضلاً عن وعورة الطريق، وقسوة الطقس، من برد قارس شتاءً، وشمس محرقة صيفاً، ليظل خطر الموت يحدق مهدداً قاصدي البيت العتيق بالجوع، أو العطش، أو القتل، أو السرقة، أو التيه في الصحراء.
ولذلك تشير المصادر التاريخية إلى أن قوافل الحجاج كانت تصاحبها في كثير من الحالات حراسات، يتوزع أفرادها على مقدمة القافلة ومؤخرتها. كما كانت تسلك طرقاً محددة، في إطار جدول زمني موضوع بعناية. وعندما كانت القافلة تمر بأراضي قبيلة معينة تحصل رسوم محددة، نظير الحماية من قطاع الطرق، كما وُجدت هناك اتفاقيات ومعاهدات أبرمتها بعض القبائل تضمن المعاملة بالمثل.
كانت مسيرة القافلة المتوجهة إلى بيت الله الحرام تبدأ بعد انتهاء عيد الفطر، في أجواء من البهجة الممزوجة بقلق وعورة الطريق، وشح المياه، وخطر قطاع الطرق، إضافة إلى انعدام وسائل الاتصال حينها. إلى ذلك كانت رحلة الحج الطويلة مناسبة حافلة بالحياة، تنشأ خلالها الصداقات التي تستمر طوال العمر، لتظل هذه الرحلة عنواناً على العلاقات الإنسانية، كما كانت تعتبر سانحة لإبراز التقاليد والعادات التي تخص كل قبيلة، في تبادل منسجم للمعارف والخبرات الحياتية المتنوعة، تتجسد خلالها معان عدة، تشير إلى اهتمامات الآباء والأجداد، منها حبهم الشديد للإبل؛ إذ يحرصون على حمل التمر معهم كغذاء للإبل أثناء الرحلة، ويغطونها أثناء المسير بأكياس «العيش» الفارغة لحمايتها من برودة الطقس، ويجمعون لها خلال الطريق أوراق شجر السمر ويقومون بطحنها وعجنها لتكون لها طعاماً، يقويها على المسير في هذه الرحلة الطويلة.

طقوس الوداع والاستقبال

يقول د. راشد رشود، الباحث في التراث الإماراتي، كان للحاج الإماراتي مجموعة من العادات تمثل تراثاً في التعامل مع هذه الشعيرة المقدسة، فقبل الذهاب إلى الحج، يذهب إلى الجيران والأهل والأصدقاء ليودعهم، ويطلب من أي إنسان توجد معه خصومة أن يسامحه، فهو ذاهب إلى بيت الله المعظم، ويريد أن يزوره من دون أن تكون هناك ضغينة في قلب أحد له. فيما يجتمع الأهل والأقارب والأصدقاء والجيران في توقيت واحد لوداع من سنحت له الفرصة ليزور بيت الله الحرام، ويقوم أهل بيت المسافر بإعداد الأطعمة المناسبة، التي تتحمل حرارة الجو لمدة طويلة ليحملها معه.
ويضيف د.رشود أنه بعد انتهاء موسم الحج يأتي دور «المطراش»، وهو شخص كثير السفر يملك إبلاً خاصة يتنقل بها من مكان إلى آخر بغرض التجارة، كان ينقل الأخبار للأماكن التي يزورها، ومن خلال تحريه إبل الحجاج كان يخبر أهل البلد بموعد عودتهم، وهنا تبدأ النساء وأهل الحي بإعداد الاحتفالات.
يتابع: بعد أن ينقل «المطراش» الخبر بقرب موعد الوصول، تبدأ الأسرة بوضع الأعلام الخضراء على أسطح المنازل، فهذا اللون هو رمز الطهارة ولون الجنة. وفور دخول الحاج إلى البلدة، يطلق عدد من الأهالي والجيران طلقات من بنادقهم للاحتفال، وإعلاناً عن وصول الحجيج. ثم يقوم بنثر «النثور»، وهي حلويات، ومكسرات، وأوراق وزهور خضراء، وبعض القطع المعدنية، تنثر على رأس العائدين من الرحلة على صوت أهازيج ترحيب بالعودة. بعدها يبدأ الأهل والجيران بالتوافد إلى بيت الحاج لتهنئته بالعودة، وبدوره يقدم الحاج للمهنئين بوصوله «صوغة الحاج»، التي كانت قديماً عبارة عن ماء زمزم، وتمور المدينة، وكحل الأثمد، وهو كحل حجازي يسحق للتزين، وبعض هدايا الأطفال البسيطة، مثل كاميرا صغيرة كانت تسمى «عكاسة»، فيها صور لمناسك وشعائر الحج وصور للبيت العتيق، كانت تحرك باليد.

تراث اجتماعي

ويشير د.رشود إلى أن الاحتفالات كانت تبدأ قبل بداية الرحلة، بل أحياناً من أول يوم في شهر رمضان، بعد إعلان نية السفر إلى البيت العتيق. وعند عودة الحاج يقوم أهل بيته برفع الأعلام «البنديرة» على المنازل، إضافة إلى إعداد الولائم وتقديم «الفوالة» والأكلات الشعبية المميزة والخاصة، للزوار وللأهل والجيران، وأحياناً كان يتم استقبال الزوار بشكل يومي لتقديم التهنئة بعودة الحاج سالماً غانماً خالياً من الذنوب. كما كانت الولائم تقام، ليس في بيت الحاج فقط، لكن في بيوت الجيران أيضاً؛ حيث كان الجيران يشاركون بتقديم الطعام إلى أهل بيت الحاج طوال أيام استقبالهم للزوار.
ويرى أن أهل الإمارات ما زالوا يحتفلون بهذه المناسبة ويتزاورون ويقدمون الهدايا، وهي الاحتفالات التي يعتبرها البعض الآن من التراث الاجتماعي للدولة، وتُعد تربية الإماراتيين على مثل هذه العادات منذ أيام الآباء والأجداد، مثار فخر بالنسبة إليهم، ومازال بعض كبار السن يصر على ممارستها رغم تطور التكنولوجيا ووسائل الاتصالات الحديثة.
ويشير إلى أن الاحتفال بعودة الغائبين، حجاجاً أو غواصين، سيظل مظهراً اجتماعياً إماراتياً يدل على المحبة والتماسك الاجتماعي، إذ كان الناس في الماضي يعبّرون عن احتفائهم بعودة الغائب برفع «قطعة قماش فوق بيوتهم»، يسمونها: «النشرة»، أو «البيرق»، أو «البنديرة»، وهي كالعلم في وقتنا الحاضر.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"