غزة.. بين أنياب الفقر وبراثن الحصار

03:56 صباحا
قراءة 5 دقائق
حلمي موسى

أعلن مدير مكتب «منظمة العمل الدولية» التابعة للأمم المتحدة في فلسطين منير قليبو أن: «مستويات الفقر والحرمان في قطاع غزة لا مثيل لها في تاريخ البشرية الحديث». وجاءت هذه التصريحات في وقت انفجرت فيه كوامن الغضب من البؤس، الذي يعانيه القطاع؛ جرّاء الحصار «الإسرائيلي»، وإجراءات السلطتين الفلسطينيتين في الضفة والقطاع.
أثار هذا التصريح اهتماماً إعلامياً؛ جرّاء صدوره في إطار عمل بعثة تقصي الحقائق، التي شكلتها منظمة العمل الدولية، وجالت في القطاع على مدى يومين. ومع ذلك فإن كل المعطيات، التي استند إليها تحقيق هذه البعثة، كانت معروفة ومعلنة من جانب دائرة الإحصاء المركزي الفلسطينية، والتي كانت تظهر على مدى السنوات الماضية مقدار تدهور أوضاع أغلبية الفلسطينيين في القطاع إلى هوة الفقر الشديد.
وقد بيّنت معطيات «مركز الإحصاء المركزي» الفلسطيني، التي نشرت؛ بمناسبة «يوم المستهلك» بشكل متزامن مع تصريحات مدير مكتب منظمة العمل الدولية في فلسطين، تعاظم معدلات الفقر، وخصوصاً في قطاع غزة. وأشارت إلى أن نسبة الفقر في قطاع غزة تشكل أربعة أضعافها في الضفة الغربية، وأن أكثر من نصف السكان في قطاع غزة باتوا فقراء في عام 2017. وأكدت أن نسبة الفقر في فلسطين عموماً ارتفعت لتبلغ 29 في المئة عام 2017؛ بسبب ارتفاع كبير في نسبة الفقر في قطاع غزة. وخلال الفترة من 2011 إلى 2017 ارتفعت نسبة الفقر في القطاع من 39 في المئة إلى 53 في المئة. ومن المؤكد أن مسار تدهور الوضع المعيشي في قطاع غزة ازداد حدة في عام 2018 ليبلغ ذروة جديدة في عام 2019.
ويتحدث تقرير الإحصاء الفلسطيني عن أنه يعيش في قطاع غزة نحو مليوني شخص، ضمن تركيب أسري يبلغ 335 ألف أسرة، 29% من أرباب الأسر يعتمدون في دخلهم على القطاع الخاص، و26% يعتمدون على القطاع العام، والبقية يعتمدون على المساعدات والإعانات والإغاثات. وتشير تقارير «الأونروا» إلى أن 80 في المئة من الأسر في القطاع تعتمد بشكل كلي أو جزئي على المعونات التي تقدمها مؤسسات إغاثية دولية؛ ولذلك يتحدث الخبراء الاقتصاديون عن أن ما لا يقل عن 30 في المئة ممن يتلقون رواتب يحصلون على معونات؛ لأنهم يصنفون كفقراء وأن دخلهم الشهري يقل عن خط الفقر.
وأشار الاتحاد العام لنقابات عمال فلسطين، قبل أيام إلى أن عمال قطاع غزة يعيشون ظروفاً صعبة وكارثية منذ أكثر من 12 عاماً. وعدد الاتحاد أسباب ذلك؛ وبينها الحصار الصهيوني والدمار الهائل الذي خلّفته اعتداءات الاحتلال على البنية التحتية في جميع القطاعات والأنشطة الاقتصادية، واستمرار الانقسام الفلسطيني. وتحدث الاتحاد في بيانه عن وجود حوالي 300 ألف عامل عاطل عن العمل في قطاع غزة، الذي يعيش فيه نحو مليوني نسمة.
وأوضحت معطيات الاتحاد العام لنقابات فلسطين، أن معدلات البطالة بين الشباب في القطاع هائلة، وهي تبلغ 74% بين الذكور، و78% بين الإناث. وقد تقلصت دوائر التشغيل في القطاع بشكل كبير؛ بعد قرارات «الأونروا» تقليص عديد عامليها وبعد قرارات حكومة رام الله بشأن التقاعد الوظيفي المبكر في قطاعات مهمة: مثل: الصحة والتعليم.
وكان مبعوثو الأمم المتحدة والمختصون بالشأن الفلسطيني قد حذروا منذ سنوات من أن القطاع سيغدو مكاناً غير صالح للعيش الآدمي في عام 2020. ولكن لم يطرأ أي تحسن فعلي في الوضع العام؛ بسبب تلكؤ المشاريع الإغاثية العربية والدولية عن مواجهة الأزمة المتصاعدة؛ جرّاء التلوث وانعدام توفر المياه الصالحة للشرب. كما أن أغلب المشاريع والخطط التي وضعت اصطدمت إما باشتراطات «إسرائيلية» مجحفة أو بعراقيل تمويلية أو بعوائق فلسطينية داخلية؛ جرّاء الانقسام.
في كل حال لا ريب أن سبب الفقر الأساسي هو الاحتلال والحصار الظالم المفروض على قطاع غزة، وعدم وجود منافذ للأفراد والبضائع إلى العالم إلا عن طريق عبر الكيان، الذي يمارس الحصار عمداً، ومصر التي تعيش ظروفاً أمنية سيئة في سيناء. وقد أضيف إلى ذلك التقليص الذي طرأ على ميزانيات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) ضمن المخطط الأمريكي؛ لتطويع أرادة الفلسطينيين ودفعهم للقبول ب«صفقة القرن». كما أن الأزمة التي تعيشها المنطقة العربية وحروبها الأهلية أضعفت من عوائد العاملين الفلسطينيين في الخارج، وقلصت المساعدات التي يتلقاها الفلسطينيون في الداخل من إخوانهم العرب.
ويبدو أن كل هذه المعطيات لم تدفع السلطتين الفلسطينيتين الحاكمتين في الضفة والقطاع إلى التوقف جدياً؛ لمنع مزيد من التدهور، ومحاولة إصلاح الموقف. ويعود ذلك إلى استمرار الخلاف العميق حول البرنامج السياسي من جهة؛ حيث الصدام بين منهجي المقاومة والتسوية، وحول الحصص والمغانم. وكان معروفاً منذ سيطرة «حماس» على قطاع غزة أن هناك جهداً يبذل لجعل الحياة في القطاع تحت حكم «حماس» جحيماً لا يطاق. وساهمت الحروب التي مرت على القطاع منذ 2008 وحتى الآن في تدمير الكثير من أسس الحياة الاقتصادية من مصانع ومعامل وورش وبيوت. ولم تنجح جهود إعادة الإعمار المحدودة إلا في توفير حل جزئي لمشكلة الإيواء؛ لكن التنمية ظلت حلماً بعيداً.
ومهما تكن الحال، من الواضح أن تعاظم معدلات الفقر في القطاع وتفشي البطالة واستمرار الانقسام وتلاشي الآمال بقرب انفراج الوضع خلق سباقاً بين عوامل الانفجار في وجه الاحتلال وسلطة الأمر الواقع التي تقودها «حماس». ورأى كثيرون في «مسيرات العودة»، التي انطلقت قبل عام توجيهاً لعوامل الانفجار نحو الاحتلال؛ لكن استمرار المواجهات نحو عام من دون كسر الحصار، وفي ظل تنامي معدلات الفقر، أعاد توجيهها نحو سلطة «حماس». وقد أدارت سلطة «حماس» المواجهة مع حالة «الحراك الشبابي» بشكل قمعي فاقم الأزمة، وأضر بالعلاقة التوافقية التي كانت قائمة بين المقاومة والشعب. ويرى البعض أن طريقة تعامل سلطة «حماس» مع تظاهرات «بدنا نعيش» عبر شيطنتها واعتبارها فعلاً ضد المقاومة أضر بعوامل استمرار «مسيرات العودة».
عموماً، تعيش القضية الفلسطينية حالياً واحدة من أشد أزماتها عمقاً؛ بسبب تضافر كل عوامل الأزمة الداخلية والخارجية، الذاتية والموضوعية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فالمسألة ليست مجرد احتلال وحصار؛ بل هي أيضاً سوء إدارة ليس بالضرورة بشكل سياسي واقتصادي، وإنما الأهم تنظيمي. فالسلطة الفلسطينية في رام الله، باسم الشرعية، تتعامل بشكل انفرادي في مختلف القضايا، متجاهلة في الغالب الكل الوطني من الناحية السياسية. والسلطة الفلسطينية في غزة، باسم المقاومة، تتنكر لأبسط حقوق المواطنة؛ عندما يتعلق الأمر بالمطالبات المعيشية وتتنصل من تبعات الشراكة. ويصعب تخيل الوضع المستقبلي للفلسطينيين إذا استمرت حالة الانقسام وانعدام التوافق على قواسم مشتركة داخلية وخارجية. فأي بؤس أكبر ينتظرنا!

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"