لم يكن للأحكام في عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مصدر سوى الكتاب، والسنة. ففي كتاب الله تعالى الأصول العامة للأحكام، من دون التعرض إلى تفصيلها جميعها، والتفريع عليها، إلا ما كان منها متفقاً مع الأصول ثابتاً بثبوتها، لا يتغير بمرور الزمن، ولا يتطور باختلاف الناس في بيئاتهم وأعرافهم. كل هذا حتى يساير القرآن الكريم كل زمن، ويبقى صالحاً لكل أمة، مهما كانت بيئتها، وأعرافها، فتجد فيه ما يكفل حاجتها التشريعية في سبيل النهوض والتقدم، وإلى جانب هذه الأصول في القرآن الكريم، نجد العقائد، والعبادات، وقصص الأمم الغابرة، والآداب العامة والأخلاق.
يذكر محمد عجاج الخطيب في كتاب «السنة قبل التدوين»، أنها جاءت في الجملة موافقة للقرآن الكريم، تفسر مبهمه، وتفصل مجمله، وتقيد مطلقه، وتخصص عامه، وتشرح أحكامه، وأهدافه، كما جاءت بأحكام لم ينص عليها القرآن الكريم، فكانت في الواقع تطبيقاً عملياً لما جاء به، تطبيقاً يتخذ مظاهر مختلفة، فحيناً يكون عملاً صادراً عن الرسول، صلى الله عليه وسلم، وحيناً آخر يكون قولاً يقوله في مناسبة، وحيناً ثالثاً يكون تصرفاً، أو قولاً من أصحابه، صلى الله عليه وسلم، فيرى العمل، أو يسمع القول ثم يقر هذا، وذاك، فلا يعترض عليه، ولا ينكره، بل يسكت عنه، أو يستحسنه فيكون هذا منه تقريراً.
وهكذا كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم ، يبين ما جاء في القرآن الكريم، والصحابة يقبلون ذلك منه، لأنهم مأمورون باتّباعه، وطاعته، ولم يخطر ببال امرئ منهم أن يترك قول رسول الله، عليه الصلاة والسلام، أو فعله، وعرفوا ذلك من كتاب الله تعالى، ففيه «إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله، يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه، ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً»، «وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا»، «من يطع الرسول فقد أطاع الله»، «وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا»، «فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم»، «ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً»، فتقبّل المسلمون السنة من الرسول، صلى الله عليه وسلم، كما تقبلوا القرآن بشهادة الله، عز وجل، ورسوله.
أما الدكتور طه الدسوقي حبيشي، فيقول في كتابه «السنة في مواجهة أعدائها»: جعلوا السنة القولية في الدرجة الثانية، أو في الدرجة الثالثة، من الدين، وأنها تلي القرآن في المرتبة، ذلك بأن القرآن قد جاء من طريق متواتر بحيث لا يتطرق إليه الشك، فهو من أجل ذلك مقطوع به جملة وتفصيلاً، أما السنة فقد جاءت من طريق غير متواتر، فهي مظنونة في تفصيلها، وإن كان مقطوعاً بجملتها، وأما الذي هو في الدرجة الثانية من الدين فهو السنة العملية.
قال الإمام الشاطبي في الموافقات: رتبة السنة التأخر عن الكتاب في الاعتبار، والدليل على ذلك أمور: أحدها «أن الكتاب مقطوع به، والسنة مظنونة، والقطع بها إنما يصح في الجملة لا في التفصيل، بخلاف الكتاب فإنه مقطوع به في الجملة، والتفصيل، والمقطوع به مقدم على المظنون، فلزم من ذلك تقديم الكتاب على السنة». والثاني : «إن السنة، إما بيان للكتاب، أو زيادة على ذلك، فإن كان بياناً كان ثانياً على المبين في الاعتبار، إذ يلزم من سقوط المبين سقوط البيان، ولا يلزم من سقوط البيان سقوط المبين»، وما شأنه هذا فهو أولى في التقدم، وإن لم يكن بياناً فلا يعتبر إلا بعد أن لا يوجد في الكتاب، وذلك دليل على تقديم اعتبار الكتاب. والثالث «ما دل على ذلك من الأخبار والآثار كحديث معاذ، بمَ تحكم؟ قال: بكتاب الله. قال، فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي».
وأورد الشاطبي أدلة كثيرة عن عمر، وابن مسعود، وابن عباس، تثبت ذلك، فقال: والمقطوع به في المسألة، أن السنة ليست كالكتاب في مراتب الاعتبار. ومما قاله: إن السنة بمنزلة التفسير والشرح لمعاني أحكام الكتاب، دل على ذلك قوله تعالى «لتبين للناس ما نزل إليهم»، وأن السنة راجعة في معناها إلى الكتاب، فهي تفصيل مجمله، وبيان مشكله، وبسط مختصره، وذلك لأنها بيان له وهو الذي دل عليه قوله تعالى «وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم»، فلا تجد في السنة أمراً إلا والقرآن قد دل على معناه دلالة إجمالية، أو تفصيلية، وأيضاً فكل ما دل على أن القرآن هو كلية الشريعة وينبوع لها فهو دليل على ذلك، ولأن الله قال: «وإنك لعلى خلق عظيم»، وفسرت عائشة ذلك بأن خلقه القرآن، واقتصرت في خلقه على ذلك، فدل على أن قوله، وفعله، وإقراره، راجعة إلى القرآن، لأن الخلق محصور في هذه الأشياء، ولأن الله جعل القرآن تبياناً لكل شيء، فيلزم من ذلك أن تكون السنة حاصلة فيه في الجملة، لأن الأمر والنهي أول ما في الكتاب، ومثل قوله «ما فرطنا في الكتاب من شيء»، وقوله «اليوم أكملت لكم دينكم»، وهو يريد بإنزال القرآن، فالسنة إذن في محصول الأمر بيان لما فيه، وذلك معنى كونها راجعة إليه، وأيضاً فالاستقراء التام دل على ذلك، وقد تقدم في أن السنة راجعة إلى الكتاب، وإلا وجب التوقف عن قبولها، وهو أصل كاف في هذا المقام، إلى أن قال: «إن السنة تطاع لأنها بيان للقرآن، فطاعة الله العمل بكتابه، وطاعة الرسول العمل بما بين به كتاب الله تعالى قولاً، أو عملاً، أو حكماً. ولو كان في السنة شيء لا أصل له في الكتاب لم تكن بياناً له، ولا يخرج من هذا ما في السنة من التفصيل لأحكام القرآن الإجمالية، وإن كانت تتراءى أنها ليست منه، كالصلاة المجملة في القرآن، والمفصلة في السنة، ولكننا علمنا بهذا التفضيل أنه مراد الله في الصلاة التي ذكرها في كتابه مجملة».