السُّنة.. التطبيق العملي للقرآن الكريم

وما ينطق عن الهوى
01:25 صباحا
قراءة 4 دقائق

‬لم‮ ‬يكن للأحكام في‮ ‬عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مصدر سوى الكتاب، والسنة‮. ‬ففي‮ ‬كتاب الله تعالى الأصول العامة للأحكام،‮ ‬من دون التعرض إلى تفصيلها جميعها، والتفريع عليها،‮ ‬إلا ما كان منها متفقاً‮ ‬مع الأصول ثابتاً‮ ‬بثبوتها،‮ ‬لا‮ ‬يتغير بمرور الزمن،‮ ‬ولا‮ ‬يتطور باختلاف الناس في‮ ‬بيئاتهم وأعرافهم. كل هذا حتى‮ ‬يساير القرآن الكريم كل زمن،‮ ‬ويبقى صالحاً‮ ‬لكل أمة،‮ ‬مهما كانت بيئتها، وأعرافها،‮ ‬فتجد فيه ما‮ ‬يكفل حاجتها التشريعية في‮ ‬سبيل النهوض والتقدم،‮ ‬وإلى جانب هذه الأصول في‮ ‬القرآن الكريم، نجد العقائد، والعبادات، وقصص الأمم الغابرة،‮ ‬والآداب العامة والأخلاق‮.‬
يذكر محمد عجاج الخطيب في‮ ‬كتاب‮ «‬السنة قبل التدوين‮»‬،‮ ‬أنها جاءت في‮ ‬الجملة موافقة للقرآن الكريم،‮ ‬تفسر مبهمه،‮ ‬وتفصل مجمله،‮ ‬وتقيد مطلقه،‮ ‬وتخصص عامه،‮ ‬وتشرح أحكامه، وأهدافه، كما جاءت بأحكام لم‮ ‬ينص عليها القرآن الكريم،‮ ‬فكانت في‮ ‬الواقع تطبيقاً‮ ‬عملياً‮ ‬لما جاء به،‮ ‬تطبيقاً‮ ‬يتخذ مظاهر مختلفة،‮ ‬فحيناً‮ ‬يكون عملاً صادراً‮ ‬عن الرسول، صلى الله عليه وسلم،‮ ‬وحيناً‮ ‬آخر‮ ‬يكون قولا‮ً ‬يقوله في‮ ‬مناسبة،‮ ‬وحيناً ثالثا‮ً ‬يكون تصرفاً‮، ‬أو قولاً من أصحابه، صلى الله عليه وسلم،‮ ‬فيرى العمل، أو‮ ‬يسمع القول ثم‮ ‬يقر هذا، وذاك،‮ ‬فلا‮ ‬يعترض عليه، ولا‮ ‬ينكره،‮ ‬بل‮ ‬يسكت عنه، أو‮ ‬يستحسنه فيكون هذا منه تقريراً‮.‬
‮وهكذا كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم‮ ‬، يبين ما جاء في‮ ‬القرآن الكريم،‮ ‬والصحابة‮ ‬يقبلون ذلك منه،‮ ‬لأنهم مأمورون باتّباعه، وطاعته،‮ ‬ولم‮ ‬يخطر ببال امرئ منهم أن‮ ‬يترك قول رسول الله، عليه الصلاة والسلام، أو فعله،‮ ‬وعرفوا ذلك من كتاب الله تعالى،‮ ‬ففيه‮ ‬«إن الذين‮ ‬يبايعونك إنما‮ ‬يبايعون الله،‮ ‬يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما‮ ‬ينكث على نفسه،‮ ‬ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً»،‮ ‬«وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا»،‮ ‬«من‮ ‬يطع الرسول فقد أطاع الله»،‮ «وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا»،‮ ‬«فلا وربك لا‮ ‬يؤمنون حتى‮ ‬يحكّموك فيما شجر بينهم»،‮ ‬«ثم لا‮ ‬يجدوا في‮ ‬أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً»، فتقبّل المسلمون السنة من الرسول، صلى الله عليه وسلم، كما تقبلوا القرآن بشهادة الله، عز وجل، ورسوله‮.‬
‮‬أما الدكتور طه الدسوقي‮ ‬حبيشي،‮ ‬فيقول في‮ ‬كتابه‮ «‬السنة في‮ ‬مواجهة أعدائها‮»: ‬جعلوا السنة القولية في‮ ‬الدرجة الثانية، أو في‮ ‬الدرجة الثالثة، من الدين،‮ ‬وأنها تلي‮ ‬القرآن في‮ ‬المرتبة،‮ ‬ذلك بأن القرآن قد جاء من طريق متواتر بحيث لا‮ ‬يتطرق إليه الشك، فهو من أجل ذلك مقطوع به جملة وتفصيلاً،‮ ‬أما السنة فقد جاءت من طريق‮ ‬غير متواتر، فهي‮ ‬مظنونة في‮ ‬تفصيلها،‮ ‬وإن كان مقطوعاً‮ ‬بجملتها،‮ ‬وأما الذي‮ ‬هو في‮ ‬الدرجة الثانية من الدين فهو السنة العملية‮.‬
‮‬قال الإمام الشاطبي‮ ‬في‮ ‬الموافقات‮: ‬رتبة السنة التأخر عن الكتاب في‮ ‬الاعتبار،‮ ‬والدليل على ذلك أمور‮: ‬أحدها‮ «أن الكتاب مقطوع به، والسنة مظنونة، والقطع بها إنما‮ ‬يصح في‮ ‬الجملة لا في‮ ‬التفصيل،‮ ‬بخلاف الكتاب فإنه مقطوع به في‮ ‬الجملة،‮ ‬والتفصيل،‮ ‬والمقطوع به مقدم على المظنون،‮ ‬فلزم من ذلك تقديم الكتاب على السنة‮». ‬والثاني‮ ‬: «إن السنة،‮ ‬إما بيان للكتاب،‮ ‬أو زيادة على ذلك،‮ ‬فإن كان بياناً‮ ‬كان ثانياً‮ ‬على المبين في‮ ‬الاعتبار‮، إذ‮ ‬يلزم من سقوط المبين سقوط البيان،‮ ‬ولا‮ ‬يلزم من سقوط البيان سقوط المبين‮»، وما شأنه هذا فهو أولى في‮ ‬التقدم،‮ ‬وإن لم‮ ‬يكن بياناً‮ ‬فلا‮ ‬يعتبر إلا بعد أن لا‮ ‬يوجد في‮ ‬الكتاب،‮ ‬وذلك دليل على تقديم اعتبار الكتاب‮. ‬والثالث‮ «ما دل على ذلك من الأخبار والآثار كحديث معاذ،‮ ‬بمَ تحكم؟ قال‮: ‬بكتاب الله‮. ‬قال،‮ ‬فإن لم تجد؟ قال‮: ‬بسنة رسول الله‮. ‬قال‮: ‬فإن لم تجد؟ قال‮: ‬أجتهد رأيي»‮.‬
‮‬وأورد الشاطبي‮ ‬أدلة كثيرة عن عمر، وابن مسعود، وابن عباس، تثبت ذلك، فقال‮: ‬والمقطوع به في‮ ‬المسألة،‮ ‬أن السنة ليست كالكتاب في‮ ‬مراتب الاعتبار‮. ‬ومما قاله‮: إن السنة بمنزلة التفسير والشرح لمعاني‮ ‬أحكام الكتاب،‮ ‬دل على ذلك قوله تعالى‮ «‬لتبين للناس ما نزل إليهم‮»، ‬وأن السنة راجعة في‮ ‬معناها إلى الكتاب،‮ ‬فهي‮ ‬تفصيل مجمله، وبيان مشكله، وبسط مختصره،‮ ‬وذلك لأنها بيان له وهو الذي‮ ‬دل عليه قوله تعالى‮ ‬«وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم»،‮ ‬فلا تجد في‮ ‬السنة أمراً‮ ‬إلا والقرآن قد دل على معناه دلالة إجمالية، أو تفصيلية،‮ ‬وأيضاً فكل ما دل على أن القرآن هو كلية الشريعة وينبوع لها فهو دليل على ذلك، ولأن الله قال‮: ‬«وإنك لعلى خلق عظيم»، وفسرت عائشة ذلك بأن خلقه القرآن‮، واقتصرت في‮ ‬خلقه على ذلك، فدل على أن قوله، وفعله، وإقراره، راجعة إلى القرآن،‮ ‬لأن الخلق محصور في‮ ‬هذه الأشياء، ولأن الله جعل القرآن تبياناً‮ ‬لكل شيء،‮ ‬فيلزم من ذلك أن تكون السنة حاصلة فيه في‮ ‬الجملة،‮ ‬لأن الأمر والنهي‮ ‬أول ما في‮ ‬الكتاب،‮ ‬ومثل قوله‮ ‬«ما فرطنا في‮ ‬الكتاب من شيء»،‮ ‬وقوله‮ «اليوم أكملت لكم دينكم»، وهو‮ ‬يريد بإنزال القرآن‮، فالسنة إذن في‮ ‬محصول الأمر بيان لما فيه،‮ ‬وذلك معنى كونها راجعة إليه،‮ ‬وأيضاً فالاستقراء التام دل على ذلك‮، وقد تقدم في‮ ‬أن السنة راجعة إلى الكتاب،‮ ‬وإلا وجب التوقف عن قبولها، وهو أصل كاف في‮ ‬هذا المقام،‮ ‬إلى أن قال‮: «‬إن السنة تطاع لأنها بيان للقرآن،‮ ‬فطاعة الله العمل بكتابه،‮ ‬وطاعة الرسول العمل بما بين به كتاب الله تعالى قولاً، أو عملاً، أو حكما‮ً. ‬ولو كان في‮ ‬السنة شيء لا أصل له في‮ ‬الكتاب لم تكن بياناً‮ ‬له،‮ ‬ولا‮ ‬يخرج من هذا ما في‮ ‬السنة من التفصيل لأحكام القرآن الإجمالية، وإن كانت تتراءى أنها ليست منه، كالصلاة المجملة في‮ ‬القرآن، والمفصلة في‮ ‬السنة‮، ولكننا علمنا بهذا التفضيل أنه مراد الله في‮ ‬الصلاة التي‮ ‬ذكرها في‮ ‬كتابه مجملة‮».‬
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"