رؤى منفتحة على الحياة

03:18 صباحا
قراءة 5 دقائق
** يوسف أبولوز

على مدى أكثر من عقدين من الزمن منذ انطلاق مهرجان «الفنون الإسلامية» في الشارقة في عام 1998 حقق المهرجان خلال هذه السنوات ثقافة بصرية جمالية، أساسها الخط العربي والفنون الإسلامية، وفي جوهر هذه الفنون، فإن الخط هو المبتدأ وهو الخبر في منظومة هذه الجماليات من زخرفة وتكوينات تشكيلية مستعارة من أوراق الشجر ومن الزهور (التوريق)، ومن تكوينات تشكيلية هندسية، وغيرها من تكوينات فنية يقع الخط في صميمها سواء بصورته الحروفية المباشرة، أو بصور أخرى اجترحها فنّانو الخط على مراحل متعاقبة لهذه الثقافة العربية الإسلامية الجمالية.
مهرجان «الفنون الإسلامية» حقق أيضاً، إلى جانب الثقافة البصرية، ثقافة فكرية وفلسفية وروحية بالتراكم وبالتدريج، فالعمل الفني ذو المرجعية الإسلامية لا يصدر عن فراغ فكري أو روحي، ولا يصدر عن رؤى تجريبية أو تجريدية مغلقة؛ بل يصدر عن رؤى منفتحة على الحياة، والإنسان، والوجود، وهي مفردات لها صداها الفلسفي الذي يشحن العمل الفني بما هو تأمّلي أحياناً، وأحياناً، بما هو تصوّفي، وبما هو إنساني وهو الإطار الأوسع للفنون الإسلامية.

الجذر الأول

حقق مهرجان «الفنون الإسلامية» أيضاً حالة إبداعية منتظمة في الإمارات، وشجّعت دوراته المتعاقبة على توجه الكثير من الفنانين والفنانات، وبخاصة من الشباب إلى الفنون الإسلامية، ومفرداتها المختلفة من أعمال كلّها خطية، وأعمال حروفية، وأعمال نحتية مستندة كلّها وغيرها من مفردات إبداعية إلى فضاءات الفن الإسلامي وجذره الأول هو الخط.
المهرجان، إلى جانب ذلك، هو واحد من أعمدة مشروع الشارقة الثقافي، فيكمّل بذلك الرسالة الثقافية الحضارية التي يهدف إليها معرض الشارقة الدولي للكتاب، ويكمّل الرسالة الفكرية والجمالية التي يهدف إليها مهرجان أيام الشارقة المسرحية، ويكمّل أيضاً الثقافة البصرية العالمية لبينالي الشارقة الذي انطلق في عام 1993، أي أن انطلاق مهرجان الفنون الإسلامية بعد البينالي بنحو ست سنوات جعل من المهرجان بيئة ثقافية مستقلة لمستوى آخر من الفنون لها خصوصية إبداعية، ولها هوية ثقافية تختلف عن هوية الفنون التي تقع تحت مظلة البينالي.
«مهرجان الفنون الإسلامية» قبل أكثر من عقدين، وكأي مهرجان ينطلق في دورته الأولى بدأ محلياً، وبتجارب فنية إماراتية مجتهدة وطموحة، ثم أخذ المهرجان أفقاً عربياً أوسع في الدورات التالية من سنواته الأولى، وبعد ذلك، نحن اليوم في قلب مهرجان له أفق عالمي، لا بل أكثر من ذلك، يسعد الكثير من فنّاني العالم أن يشاركوا في هذا المهرجان، ويعتبرون مشاركتهم فيه امتيازاً لهم، ولأعمالهم الفنية التي تستند في كل دورة من المهرجان إلى الشعار الذي تقترحه إدارة المهرجان وتعتمده فكرياً، وثقافياً، وفلسفياً، وما من شعار اعتمده المهرجان إلاّ ووراءه فكر وتأويل ودلالات، ومن الشعارات المعتمدة في دورات سابقة ودارت في فلكها مضامين الأعمال الفنية:.. أفق، أثر، بنيان، النّور، وتحمل هذه الشعارات في نسيجها اللغوي والمعنوي إشارات روحية، أو روحانية، نورانية، وفي هذه الدورة (22) من المهرجان كان الشعار هو «مدى»، وقبل أن نجتهد في قراءة «المدى» كشعار وكمفهوم، لا بد من استكمال إشارة عالمية الفنون الإسلامية، وأيضاً عالمية الخط العربي، ففي هذه الدورة فنانون مجرّبون ووراءهم تراث فني يقوم على ثقافة أكاديمية، وعملية مستقاة من روح الفنون الإسلامية.

نماذج

على سبيل المثال لا الحصر يذهب الفنان الإسباني خوسيه كارلوس جارسيا إلى ثقافة تراثية محضة، كما جاء في التعريف بعمله الفني المشارك في المهرجان تحت عنوان: «التراث».. هذا العمل بشكل خاص يؤشر على كيفية رؤية الفنان الأجنبي لتراثنا المادي والمعنوي، وكيفية التعامل معه، وإحالة كل ذلك إلى ذاكرة الأسلاف.. جارسيا يشتغل على ما سمّاه اللوح الأموي الجلدي المذهّب «.. يُعَدّ اللوح قطعة فضية مطلية بالذهب، صنعها الكيميائيون لتذكرهم بأسلافهم، وعلى رغم أنه مجرّد طلاء ذهبي على الفضة، إلاّ أن اللوح الجلدي المذهّب هو بحث البشرية المستمر عن الثروة في الأرض، وتقصّي الروحانية التي تصل إلى الجنة..».. وكما نلاحظ هنا، فإن للفنان جارسيا عملاً فنياً هو «بلاط قصر الحمراء» لم ينحصر أو يتحدد في ذاكرة أندلسية إسلامية ضيقة؛ بل هو عمل فني عالمي، روحه مشتقة من روح الفنون الإسلامية.
الفنان الأرجنتيني فرانسيسكو ميراندا «توكو»، وفي إطار عالمية هذه الفنون يستفيد ممّا سمّاه الفن الهندسي الإسلامي الكلاسيكي.. «.. باستخدام تقنية أساسية بين قلم الرصاص والورق»، أما الفنانة الفنزويلية ماجدالينا فرنانديز فتستحضر الحركة الإيقاعية للأمواج في البحر، وترى كما تقول في تعريفها لعملها الفني الفيديوي أن البحار ساحات للمغامرة والاكتشاف والاتصال والبُعْد، وتتجسد كأماكن حدودية توضّح جغرافية الأرض، وتحيط بالوجود الإنساني وتحميه.

ثيمات

اكتفي بهذه الأمثلة الموجزة؛ إذ أردت القول إن فنّاني العالم ومنهم في الثلاثين والأربعين من العمر، جعلوا من ثيمات الفنون الإسلامية ثيمات عالمية، وهناك فنّانون مشاركون في هذه الدورة من أمريكا، واستراليا، وبيلاروسيا، وألمانيا، وإيطاليا، استلهموا روح الفنون الإسلامية، وجعلوا منها روحاً عالمية، صافية، إنسانية، تنشر في النهاية قيم التعايش، والتلاقي، والحوار، والتسامح، وهي قيم ماثلة في فكر الفنون الإسلامية هذا الفكر الذي أرسى دعائمه فلاسفة كبار؛ مثل: ابن سينا، والفارابي، وابن رشد، ابن الهيثم، ابن حزم، أخوان الصفا. ابن النفيس، الكندي، وغيرهم وغيرهم ممّن جمع بين الفكر والفلسفة والطب وعلوم الرياضيات والفلك، وليس بعيداً عن فضاء موضوعنا هذا.. هناك من هؤلاء الفلاسفة من هم شعراء، وموسيقيون؛ بل، وفيهم من استعمل الخط والنسخ واستعمل الكتابة أو صنعة الكتابة مثل الجاحظ، والخطاط المعروف ابن مقلّة.
ولكن ماذا عن عالمية الخط العربي؟؟.. في كتابه «تاريخ الكتابة» ترجمة: د. سليمان أحمد الضاهر، يعرّف الباحث يوهانس فريدريش بأكثر من مئة كتابة عبر تاريخ البشرية، بدءاً من الكتابة المسمارية، مروراً بكتابة أوغاريت والكتابات القوطية والسلافية وكتابات الهند الغربية وآسيا الوسطى، وانتهاء بكتابات في سيبيريا، والكثير من هذه الكتابات تقوم على الخط العربي، لا بل، إن قائمة اللغات المكتوبة بالخط العربي والواردة في الموسوعة الحرّة تشير إلى أن 216 لغة في العالم تُكتب بالخط العربي، «والمعلومة على ذمّة الموسوعة»، منها مثلاً لغات ربما نسمع بها للمرة الأولى مثل الفولانية، البروشسكية، الكانورية... وغيرها من لغات من الطبيعي أن بعضها انقرض وربما يحتضر، ولكن من حيث المبدأ، فالحرف العربي هو شخصية هذه اللغات في غربي العالم، وشماله، وجنوبه، وشرقه، أما على مستوى اللغات الإسلامية بالأحرف العربية، فيقول الباحث ياسين عز الدين.. «.. إننا نعاني مشكلة في أكثر الدول الإسلامية، فبعد أن كانت اللغات المحلية تكتب بالحرف العربي لقرون عديدة، فإنها ومع قدوم الاستعمار وبتأثير منه تحوّلت الكثير من اللغات الإسلامية إلى تبنّي الحرف اللّاتيني أو حتى الأحرف «السيريلية» والمقصود بها الحروف التي تكتب بها اللغة الروسية.
إذاً، فالحرف العربي، وتالياً الخط العربي، هو في الأساس خط عالمي، وتنبع عالميته من موقعه في تكوين شخصية هذه اللغات المتعددة في العالم سواءً أكانت لغات دول إسلامية، أو لغات دول غير إسلامية.
نتحدث هنا، بالطبع، عن الجذر العالمي للخط العربي، وكيف أن هذا الجذر لم يُجتثْ ولم يفسد، لا بل إن شجرة الكتابة العربية اليوم، وأقصد بها رسم الخط العربي تستقطب المئات من فنّاني العالم الذين يشيّدون أعمالاً تركيبية، وتشكيلية، ونحتية تحيا بروح الخط العربي، وإن كانت هذه الأعمال ليست خطية مباشرة أو حروفية مباشرة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"