هذيان «مملكة إسرائيل»

03:36 صباحا
قراءة 4 دقائق
حلمي موسى

فور انتهاء حرب يونيو/ حزيران العام 1967 باحتلال بقية أراضي فلسطين، ومناطق عربية واسعة في الجولان، وشبه جزيرة سيناء، تنامت الدعوات اللاهوتية لإقامة «مملكة «إسرائيل»» من النيل إلى الفرات. واصطدمت هذه الدعوة بمعارضة سياسية تستند إلى اعتبارات أمنية ودولية خلقت سجالاً بين من يرون في الاحتلال «تحريراً لأرض الأجداد»، وبين من يرون فيه وسيلة لنيل الاعتراف بسيادة يهودية على أكبر قدر ممكن من الأرض.

طوال عقود نشأ في الكيان سجال بين أنصار ما يعرف ب«الحل الإقليمي» القائم على مبدأ الأرض مقابل السلام، وأنصار «أرض «إسرائيل»» الكبرى والصغرى. وفي كل حال فتحت اتفاقيات كامب ديفيد، ووادي عربا، وأوسلو، باب السجال بين أنصار التيارين على مصراعيه. ويمكن القول إنه بعد اتفاقيات كامب ديفيد بدأ السجال يأخذ طابع الصراع المتزايد في عنفه بين أنصار الاتجاهين ليصل بعد اتفاقيات أوسلو إلى اغتيال رئيس الحكومة اسحق رابين.
ويمكن القول إن اغتيال رابين أوصل إلى الحكم التيار الذي أسهم أكثر من غيره في التحريض على ذلك، برئاسة بنيامين نتنياهو. وقد رأى هذا التيار أنه إذا كان يمكن احتمال التخلي عن أراض «ليست ضمن أرض «إسرائيل»» فإنه لا يمكن أبداً التخلي عن «أرض الآباء».
وقد رفض هذا التيار على مدى أكثر من عقدين أية أفكار تقوم على مبدأ الأرض مقابل السلام، وصار يعرض، كبديل، السلام مقابل السلام، أو الحل الاقتصادي. ومن الجائز أن ما نسمعه مؤخراً عن «الصفقة الأمريكية» ليس أكثر من صدى صوت لهذه الأفكار.
وضمن هذا السياق تزايد الإيمان ليس برفض حل الدولتين فقط، وإنما أيضاً بضرورة ضم الضفة الغربية، وفرض السيادة «الإسرائيلية» عليها. ووجد هذا الإيمان طريقه ليغدو برنامجاً سياسياً في المعركة الانتخابية الأخيرة بعد أن اعتبر «الليكود» هذا الضم هدفاً واجب التحقيق. وخلافاً لمواقف الإدارات الأمريكية السابقة شجعت إدارة ترامب حكومة نتنياهو على هذا النهج بعد أن اعترفت ليس بالقدس عاصمة للاحتلال فقط، وإنما أيضاً بالسيادة «الإسرائيلية» على الجولان، وأن الضفة الغربية ليست أرضاً محتلة. وقد نشأت حركة الاستيطان في الضفة الغربية على أساس الرواية التوراتية التي تم تبريرها لاحقاً بذرائع أمنية سرعان ما غذّت إحداهما الأخرى.
وتقريباً، كانت المعركة الانتخابية الأخيرة في «إسرائيل» المشهد الأكثر تعبيراً عن نجاح أنصار «أرض «إسرائيل»» في تكريس منهجهم وتسييده. إذ تراجع الحديث عن الحل الإقليمي في الحلبة السياسية، ووجد قادة، مثل نتنياهو، في أنفسهم جرأة لكي يعلنوا أنهم ينتظرون اعترافاً أمريكياً بالسيادة «الإسرائيلية» على الضفة الغربية. وقال نتنياهو في حملته الانتخابية إنه أبلغ الرئيس الأمريكي عدم استعداده لإخلاء أي مستوطنة، وأنه يتوقع الحصول في ولايته القريبة على اعتراف أمريكي بالسيادة على الضفة الغربية. وقال إن «جميع المستوطنات، في الكتل الاستيطانية وخارجها، يجب أن تبقى تحت السيادة «الإسرائيلية»».
ومثلت أقوال نتنياهو ترجمة لما كان يعرف ب«الضم الزاحف» الذي بدأ تقريباً مع بداية الاحتلال، حين جرى الإعلان عن ضم مدينة القدس ليتبعها نشر مشاريع استيطانية مختلفة، مثل مشروعي جاليلي وألون. وشكلت اتفاقيات أوسلو الغطاء الذي انطلقت تحته أوسع عملية سلب للأراضي، وإقامة المستوطنات عليها في عملية صارت تهدف إلى منع التواصل الجغرافي الذي يتيح إنشاء دولة فلسطينية قابلة للحياة.
ويؤمن بعض المطلعين اليهود على خفايا الأمور في «إسرائيل» بأن نتنياهو، وائتلافه اليميني، جادان في تسهيل ضم الضفة الغربية، أو أجزاء كبيرة منها في السنوات القليلة المقبلة. وهذا ما دفع ما لا يقل عن 200 مسؤول أمني «إسرائيلي» سابق إلى التوقيع على عريضة موجهة لنتنياهو تطالبه بالتعهد بإجراء استفتاء شعبي قبل اتخاذ أي قرار بشأن ضم الضفة الغربية. واستند هؤلاء في تخوفاتهم إلى تصريحات قادة الليكود والأحزاب الائتلافية بضرورة ضم المنطقة «ج» في الأراضي المحتلة التي تشكل نحو 60 في المئة من أراضي الضفة الغربية.
وقالت العريضة إن «فرض القانون «الإسرائيلي» على مناطق «يهودا والسامرة»، كلها، أو جزء منها، خارج إطار اتفاق سياسي، سيقود إلى ردات فعل متدحرجة ستمس كثيراً بأمن الدولة، واقتصادها، ومكانتها الإقليمية والدولية»، وشددت على أن «ضمّاً من دون اتفاق سيشكل خطراً على أمن «إسرائيل» وحياة سكانها».
كما أن صحيفة «هآرتس» التي تحاول أن تعبر عما تبقّى من صوت عقلاني وليبرالي في الكيان، كرست إحدى افتتاحياتها لتحذير الإدارة الأمريكية من مخاطر ضم الضفة الغربية، بعد أن أقرت بضم هضبة الجولان. وشددت الصحيفة على أن الاعتراف الأمريكي بالسيادة «الإسرائيلية» على هضبة الجولان يفتح الباب أمام مزيد من التوسع، وضم مناطق في الضفة الغربية. وقالت إن اليمين، مسلحاً بتأييد أمريكي، سيحاول في البداية ضم منطقة في الضفة الغربية تحوي أكبر قدر من المستوطنات بأقل عدد من الفلسطينيين. وأن ما سيلي ذلك هو إعادة احتلال مناطق السلطة، وفرض ما يمكن اعتباره «حكماً ذاتياً» تحت سيطرة «إسرائيلية». وخلصت الصحيفة إلى أن ««إسرائيل» نتنياهو، التي تقوّت بعرض ترامب السخي والهوس التوراتي لغلاة المتطرفين القوميين تنحدر سريعاً نحو دولة ثنائية القومية».
واضح أن القيادة «الإسرائيلية» اليمينية التي صارت تعزز الاتجاهات الأشد تطرفاً في اليمين الديني تجد في إدارة ترامب فرصة ذهبية لتكريس وقائع على الأرض. وقد مهدت للخطوات التالية بتمرير العشرات من القوانين التي تسهل فرض السيادة الصهيونية، بعد فرض زاحف لقوانين الكيان على الأراضي المحتلة.
ويمكن القول إن كل أحزاب الائتلاف اليميني الحاكم تؤيد بأشكال مختلفة، ضم مناطق في الضفة الغربية، ولا تجد من يعارضها سوى القوائم العربية، وحركة ميرتس. ف«المعسكر الصهيوني» بأغلبيته الساحقة، لا يمانع في ضم الكتل الاستيطانية، وما توفر من الأراضي العربية، ولكن الخلاف يبقى على الطريقة والوتيرة.
ومع ذلك، فإن الفلسطينيين يواصلون ليس رفض الخطوات «الإسرائيلية» فقط، وإنما يزدادون إصراراً على مواجهة هذه الخطوات بكل السبل. ويصرون على أن كل التغييرات التي يجريها الاحتلال على الأرض باطلة وفق القانون الدولي، وأنها لا تنشئ حقاً له مهما حصل. وهناك اتفاق على أن ضم مناطق في الضفة الغربية يلغي، ولو مؤقتاً، خيار الدولة الفلسطينية، ويوفر مقدمات «التدهور في المنزلق نحو واقع الدولة الواحدة»، التي يراها أكثر الخبراء في الكيان، الخطر الأشد على فكرة الدولة اليهودية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"