البحث عن الجوهر

03:22 صباحا
قراءة دقيقتين
عثمان حسن

لا شك أن الفنون الإسلامية باتصالها مع حضارات العالم، قد استطاعت وبمرور الزمن أن تشكل عناصر خاصة بها في سؤالها عن المعرفة الكلانية، وفي البحث عن الجوهر، من هنا، سعت هذه الفنون إلى التعمق المعرفي، وبدأت تشكل نظرية خاصة بها، تدرك ما في الفن من قوة، وتعي ما في الفنون من قيم جمالية كامنة في الأشياء، وهي بالضرورة، قيم ذات خصائص جوهرية مكونة لبنية الوجود.
من هنا، بدأ سؤال البحث الفني في المنظور الإسلامي، يبتعد عمّا هو عرضي وحسي، وبدأ الفنان المسلم يتفرد في ابتكار وحدة أسلوبية خاصة به، سواء في الزخرفة، أو العمارة، أو في التوريق، وأيضاً، في الخطوط، وهكذا بدأت تتشكل ملامح جديدة لهذا الفن في تعامله مع عناصر الطبيعة وموجوداتها، كما بدأ يتشكل عند الفنان المسلم وعي يبتكر آلياته الخاصة في تعامله مع العناصر التي تتجاوز كونها شيئاً مادياً جامداً.
كان التجريد في الفن الإسلامي، ذا طبيعة شمولية، جرد الخارج من ملامحه الشكلية، بحثاً عن المضمون والمعاني والأفكار، التي تتدفق بعين وبصيرة واعية ل «كنه» الوجود. كانت الزخرفة، وما وصلت إليه من رقي فني، واحدة من اشتغالات الفنان المسلم، فبرع في تجريدها، معبراً عن رؤية شمولية تستنطق جمال الشكل، ويفيض في الجوهر، وكان الشكل الهندسي بالنسبة للفنان المسلم، ينطق عن مخيلة ذات مفهوم يعبر عن الداخل والباطن، ويبتكر رؤية فلسفية مبدعة ومنسجمة مع «آفاقها» السابحة في الوجود، وتعبيراً عن قوة مضاعفة ترى الروح كما ترى «الخالق» قوة ناظمة لهذا الكون اللانهائي، هو إذاً فن إسلامي يبحث في الجمال الروحي، وهو «بصيرة توحد الناظر مع روح الفن الذي يمثل الكمال»؛ حيث الشكل والخط عتبة نحو المضمون، ولنقل تلك الحياة المتدفقة التي تبحث عن أسرار الوجود والكائنات.
يقول الناقد المغربي «عز الدين بوركه»: «لأنه لا يمكن تصور أي دين بدون ملمح فني، فقد تجسد الملمح الفني الإسلامي في العمارة، وفي المنمنمات وفن الخط، وغيرها من الفنون، فالدين والفن يتحدان في كونهما تجربة روحانية وروحية، تبحث في الأعماق الجوانية للإنسان.. غايتها التطهير والوصول إلى حقيقة الحقائق الصافية من أي شائبة».
هكذا، ولد فن إسلامي يفكك المادة ورمزيتها، ويحيلها إلى مفهوم أكثر تحرراً، وهو فن، طرح وما يزال سؤاله المعرفي، محفزاً العقل للبحث عن أداة المعرفة الكلية، المعرفة بوصفها قوة عظمى تعود إليها الخفقات، والأصوات، والصلوات، والابتهالات، باحثة عن الجوهر، هي تلك المخيلة التي وصفها الشاعر الفرنسي بول فاليري ب «المخيلة الاستبطانية» التي تبتعد عن المحاكاة الساذجة للطبيعة والحياة، لتكشف عن النسق الذي يوحي بالخلود ويركز على الجوهر.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"