الملايين تتحرك لحماية البيئة

03:26 صباحا
قراءة 5 دقائق

د. نيللي كمال الأمير

يتغير النظام الدولي، وتتغير بنود أجندته صعوداً، وهبوطاً، بتغير أحداثه، وتطور قضاياه، خاصة تلك واسعة المجال زماناً، ومكاناً. وقبل ستينات القرن الماضي لم تكن البيئة قضية دولية، أو حتى قضية محلية، فكان- حينها- الشاغل المحوري للساسة في العالم قضايا أخرى، من قبيل تعزيز قدرات دولهم التسليحية وحماية الحدود السياسية.. وتدريجياً، استطاعت البيئة وقضاياها مزاحمة لقضايا «السياسة التقليدية».
انطلاقا من الواقع الدولي الجديد، وتغير الأولويات وجدنا الأمم المتحدة تنشئ فرعاً للبيئة (برنامج الأمم المتحدة للبيئة)، بعدها وجدنا المنظمة الأممية تنشئ معاهدة بيئية كبرى رسخت لما يمكن أن نطلق عليه القانون الدولي البيئي (معاهدة الأمم المتحدة لمكافحة آثار تغير المناخ)، وصلنا بعد ذلك لاتفاقية دولية ملزمة في مجال البيئة، لأول مرة في التاريخ، وهي اتفاقية باريس للمناخ.
ولا تعبر تلك التطورات إلا عن محاولات، أو ردود أفعال لحالة التردي المتفشية في توازن البيئة عالمياً، كما تعبر عن تغيرات كبرى خلقت قضية جديدة وضعتها على قمة أجندة النظام الدولي، وهي قضية تغير المناخ. لكن يبدو أن تلك التحركات التي تم رسمها وتنفيذها على مستويات الدول والحكومات، لم تكن كافية، فهي أولاً لم تكن قادرة على أن تعدل حالة «الخلل البيئي»، كما أنها لم تُرض شعوب الدول المختلفة التي عاني، ويعاني آثار تغير المناخ المتراكمة والمتداخلة بصورة أدت إلى المساس بأمنهم، بل بحياتهم ذاتها. ولذلك وجدنا سلسلة من التظاهرات الشعبية المنظمة خلال الأسابيع الماضية التي يمكن أن نطلق عليها «مليونية» في مجموعها تطالب بتحركات أكثر جدية، بل فلنقل أكثر فاعلية لمواجهة آثار تغير المناخ.

تظاهرات المناخ

لم يأت توقيت «تظاهرات المناخ» مصادفة، وإنما جاء للفت الانتباه، وبالتزامن مع قمة الأمم المتحدة الشبابية لتعير المناخ، وقبيل انعقاد مؤتمر الدول الأطراف الخامس والعشرين لمعاهدة تغير المناخ والمقرر عقده خلال أسابيع، وتزامناً مع قمة الأمم المتحدة لتغير المناخ وسبل مواجهاته التي استضافتها كوستاريكا خلال الثلث الأول من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري. أما محتوى التظاهرات وأهدافها فهو رفع سقف الطموحات والمطالب معاً، عند الحديث عن سبل التكيف والمواجهة لآثار تغير المناخ، والتأكيد على هدف «الدرجة مئوية ونصف الدرجة»، وضرورة «جهازية» مختلف الدول والاستعداد لأسوأ الاحتمالات، حفاظاً على الأرواح.
بدأت التظاهرات في الثلث الأخير من شهر سبتمبر/ أيلول الماضي، شارك فيها أكثر من سبعة ملايين ونصف المليون شخص، لذلك عُدت إجمالاً أكبر تظاهرة بيئية في التاريخ. لا يقتصر توصيفها بالأكبر بالنظر لكبر عدد المشاركين، ولكن أيضاً لاتساع الدول التي شهدتها، وعدم اقتصارها على عواصم، أو مدن كبرى كبرلين، أو جاكرتا، وعمان، ولكن شارك قرويون أيضاً، ولم لا؟ والقطاع الزراعي هو الأكثر حساسية على الإطلاق لاختلال توازنات البيئة التي خلفتها قضية تغيرات المناخ. ويشير أحد المصادر المنشورة والراصدة لتلك التظاهرة إلى أن المتظاهرين أتوا من 185 دولة، منهم ممثلو 73 اتحاداً مهنياً ونقابياً، وأكثر من ثلاثة آلاف مؤسسة قطاع خاص، و820 منظمة مختلفة، وظهرت، أو تمت تغطيتها من خلال أكثر من 8000 موقع إلكتروني، على مستوى العالم.

صفقة خضراء

مطالب المتظاهرين كما أخبرتنا بها لافتاتهم، كانت: نريد صفقة خضراء، وإنه كوكب واحد، ونريد طاقة جديدة، والمناخ يتغير فلماذا لا نتغير معه؟ وأخشى الموت من تغير المناخ.. أما الفئات المشاركة فكانت أساساً الشباب، ففي الولايات المتحدة، امتلأ حي منهاتن الأشهر بنيويورك، وتغيب العديد عن دراستهم للمشاركة في التظاهرات التي قُدرت بنحو 800 مسيرة على مستوى الولايات إجمالاً، وتجمعت تلك الحشود على صفحات التواصل الاجتماعي قبل اللقاء في الميدان، من خلال تداول ومشاركة «هاشتاج» تظاهرات المناخ، وجمعة من أجل المستقبل.
وتحمل تلك التظاهرات دلالات إيجابية عدة. فهي أولاً، جاءت بمشاركة شعبية مكثفة من دول لا تدعم سياسات التكيف لتغير المناخ، ولكنها تدعم مبدأ الإنصات لشعوبها، وهنا، فالولايات المتحدة المثال الأبرز، حيث ذكر بعض المواقع أن المشاركين من نيويورك وحدها كان أكثر من ربع مليون مشارك، وبالتالي تبعث تلك المشاركة الكثيفة برسالة قوية للقيادة السياسية الأمريكية الرافضة للمشاركة في اتفاقية باريس للمناخ. الدلالة الإيجابية الثانية، الفئة المشاركة، فاهتمام الشباب، وعلى نطاق واسع كما هو واضح، بقضية المناخ ينبئ بنشأة جيل من صناع القرار- في المستقبل- على قدر كاف من الوعي بأهمية حماية البيئة، جيل واعٍ بكل مفردات البيئة ومفاهيمها، ويميز جيداً ما بين حالة التوازن وحالة الاختلال.
أما الدلالة الإيجابية الثالثة فهي اختلاف المستويات الاقتصادية للدول التي شهدت تظاهرات «جمعة المستقبل»، فعلى خلاف الوضع على المستوى السياسي، خاصة خلال قمم المتحدة للمناخ، والتي يتنافر فيها قطبا العالم النامي والمتقدم، نجد أن مستوى الشعوب يطرح نموذجاً آخر يتمتع بدرجة من التوافق والاتفاق على أهمية التحرك الجاد، وهو ما قد يشكل نوعاً من الضغط غير المباشر على الساسة للبحث عن مساحة اتفاق ودعم مشترك لآليات التكيف لمواجهة آثار تغير المناخ.
أما الدلالة الإيجابية الرابعة، فإن البيئة أيضاً، باتت تحرك الجموع والملايين. فلم تعد المطالبة الشعبية بحقوق اقتصادية، أو سياسية، أو حتى اجتماعية فقط، ولكن الحقوق البيئية انضمت للقائمة، مضيفة أداة ضغط جديدة، لكن تلك المرة تحدث على المستوى العالمي.

التحركات الشعبية

بقي أن نذكر، أنه لتعاظم جدوى التحركات الشعبية، لا بد من التعامل مع التحدي الأكبر، وهو التمويل. فيظل التمويل أحد أهم أعمدة المواجهة لكل القضايا الدولية، لا سيما قضية تغير المناخ، خاصة أن معظم المتضررين من قاطني معسكري الدول النامية والدول الأقل نمواً في العالم. لذلك وجدنا الأمم المتحدة ترصد جائزة سنوية لأفضل ممارسات التحرك لمواجهة تغير المناخ لمؤسسات القطاع الخاص الناشئة، والمبادرات الريادية الشبابية. وفي الواقع فإن مثل هذه الجوائز تنم عن الدور المهم الذي يلعبه «المواطن»، أو الفرد العادي عموماً، والشباب خصوصاً في مواجهة تغير المناخ، وهو ما وضح بالفعل من خلال التظاهرات الأخيرة المطالبة بتفعيل السياسات الحكومية في مجال تغير المناخ.
نعيش في عصر العولمة، وهو العصر الذي يطلق عليه أيضاً «المواطن العالمي»، الذي إذا خطط وتحرك بصورة منظمة سيصعب على القيادات السياسية تجاهل مطالبه، وإذا كنا نتحدث عن نحو ثمانية ملايين مواطن عالمي تحركوا لتقديم مطلب عالمي: حماية البيئة، فإننا نتوقع أنها بداية لتحركات شعبية عالمية قادمة ربما تشهدها قمة الأمم المتحدة للمناخ القادمة التي ستخلق تراكماً شعبياً، وتعبئة عالمية المستوى، سيكون من الصعب على القيادات السياسية عدم الاستجابة لها، إذا أرادت الحفاظ على شرعية وجودها، حيث بات واضحاً وجلياً أن الشعوب تريد مواجهة الاختلالات البيئية.. الشعوب تريد تغيير المناخ (للأفضل).

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"