يذكر العلماء أن كلامه صلى الله عليه وسلم في الأمور الدنيوية آراء محضة ويسمى (إرشادا) أي أن أمره صلى الله عليه وسلم في أي شيء من أمور الدنيا يسمى أمر إرشاد وهو يقابل (أمر التكليف) ومن القواعد الأصولية (أن العمل بأمر الإرشاد لا يمسي واجباً ولا مندوباً، لأنه لا يقصد به القربة ولا فيه معنى التعبد، ومن المعلوم أنه: لا دليل على وجوب أو ندب إلا بدليل خاص).
يقول محمد أبو رية في كتاب «أضواء على السنة المحمدية»: «إن ما ذكره العلماء في ذلك إنما هو لأن الرسل غير معصومين في غير التبليغ، قال السفاريني في شرح عقيدته: قال ابن حمدان في «نهاية المبتدئين»: «وإنهم معصومون فيما يؤدونه عن الله تعالى وليسوا بمعصومين في غير ذلك». وقال ابن عقيل في الإرشاد: «إنهم عليهم السلام لم يعتصموا في الأفعال، بل في نفس الأداء ولا يجوز عليهم الكذب في الأقوال فيما يؤدونه عن الله تعالى، وقد ثبت أن النبي كان يصدق بعض ما يفتريه المنافقون، كما وقع في غزوة تبوك وغيرها وصدق بعض أزواجه، وتردد في حديث الإفك وضاق صدره به زمناً حتى نزل عليه آيات البراءة فكشفت له الغطاء عن الحقيقة».
إنما أنا بشر
قال القاضي عياض: «أما أحواله في أمور الدنيا فقد يعتقد الشيء على وجه يظهر خلافه، أو يكون منه على شك أو ظن بخلاف أمور الشرع»، وفي حديث ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا بشر، فما حدثتكم عن الله فهو حق، وما قلت فيه من قبل نفسي فإنما أنا بشر أخطئ وأصيب». ولما نزل رسول الله بأدنى مياه بدر قال له الحباب بن المنذر: أهذا منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه. أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: «لا بل هو الرأي والحرب والمكيدة». قال: «فإنه ليس بمنزل! انهض حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغور ما وراءه من القلب فنشرب ولا يشربون». فقال: «أشرت بالرأي» وفعل ما قاله، وأراد مصالحة بعض عدوه على أن يعطيه ثلث ثمر المدينة فاستشار الأنصار فلما أخبروه برأيهم رجع عن هذه الخطوة، فمثل هذا وأشباهه من أمور الدنيا لا مدخل فيها لعلم ديانة ولا اعتقادها ولا تعليمها.
وعن أمور البشر الجارية على يديه وقضاياهم ومعرفة المحق من المبطل، والمصلح من المفسد، قال صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذ منه شيئاً فإنما أقطع له قطعة من النار»، (عن أم سلمة) وفي رواية الزهري عن عروة «فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له». وهو صلى الله عليه وسلم يجري أحكامه على الظاهر وموجب غلبة الظن بشهادة الشاهد ويمين الحالف ومراعاة الأشبه فأما ما تعلق منها (أي معارف الأنبياء) بأمر الدنيا فلا يشترط في حق الأنبياء العصمة من عدم معرفة الأنبياء ببعضها أو اعتقادها على خلاف ما هي عليه.
وظيفة الرسل
يذكر المفكر الإسلامي الراحل الدكتور محمد عمارة رحمه الله في كتابه «حقائق وشبهات حول السنة النبوية»، «أنه يجب الامتثال إلى ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم شرعاً دون ما ذكره من معايش الدنيا على سبيل الرأي، وإن وظيفة الرسل إرشاد الناس إلى طريق النجاح والاستقامة، وإقامة العدل فيهم، وتربيتهم على الأخلاق الفاضلة والشيم الكريمة.. وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نمتثل لكل ما جاء به عن الله، وأنه لا يجب الأخذ بما ورد عنه في أمور الدنيا».
روى مسلم عن موسى بن طلحة عن أبيه قال: «مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم على رؤوس النخل، فقال: «ما يصنع هؤلاء؟» فقالوا: يلقحون، يجعلون الذكر في الأنثى، فتلقح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أظن يغني شيئا». قالوا: «فأخبروا بذلك، فتركوه، فأُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك»، فقال: «إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه فإني إنما ظننت ظنا، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به، فإني لن أكذب على الله عز وجل». وروى مسلم أيضا عن رافع بن خديج قال: قدم رسول الله المدينة وهم يؤبرون النخل، فقال: «ما تصنعون؟» قالوا: كنا نلقحه. قال: «لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا» فتركوه فنقص، قال: فذكروا ذلك له، فقال: «إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر». وروى أيضا عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون، فقال: «لو لم تفعلوا لصلح». قال: فخرج شيصًا، فمر بهم فقال: «ما لنخلكم؟» قالوا: قلت كذا وكذا، قال: «أنتم أعلم بأمور دنياكم».
تفاسير خاطئة
لقد حكم النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه، وهو سيد المنصفين، بأنه بشر، وأن أهل كل حرفة أو صناعة أدرى بمسائلها وخفاياها من غيرهم، وأن عصمة الرسل إنما تجب فيما إذا بلغوا عن الله شيئا من شرائعه ونواهيه. ومن هنا نعلم أنه لا يجب الأخذ بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من أمور الدنيا وأحوالها وحرفها وطبها وصنائعها، لأن هذا ليس مما يوحى به إليه من الشرع.
ولكن غفل أكثر المفسرين، أو جهلوا الغرض الذي أنزل له هذا الكتاب الكريم، كما كلّت أفهامهم عن إدراك الآيات الناطقة بما يرمي إليه، فقالوا: «إن القرآن لم يترك فناً من الفنون العلمية إلا أتى بشيء من مسائله، فجعلوه كتاب جغرافيا وتاريخ وطبيعة ورياضة وهلم جرا، وادعوا أنه أتى من كل فن بطرف، فحملوه من التأويل ما ينبو عنه، ثم ذيلوا آياته بأشياء أملاها عليهم جهلهم، ووسوست لهم بها شياطينهم، فشوهوه وألبسوه غير لباسه، وصبغوه صبغة أبرزت القرآن والدين وصالح المسلمين بما هم براء منه، فكانوا أضر عليهم من العدو المبين».
إن المتدبر للقرآن يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم ما سئل في شيء مما لم يبعث لأجله إلا صرف السائل عن قصده، وتلقاه بغير ما يترقب، تنبيها إلى أنه الأولى والأليق ما هو من حدود الرسل ووظائفهم من الهداية والإرشاد وتبليغ الشرائع، ينوه إلى ذلك قوله تعالى: «ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي»، (سورة الإسراء الآية: 58) وقوله: «يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج»، (سورة البقرة الآية: 981)، وقوله: «يسألونك عن الساعة أيان مرساها، فيم أنت من ذكراها، إلى ربك منتهاها، إنما أنت منذر من يخشاها»، (سورة النازعات الآيات: 24-54) فبين الله في هذه الآيات أن وظيفة الرسل الإنذار وتحذير العالم من تلك الساعة التي هي آتية لا ريب فيها، وليس من وظيفتهم تعيين وقتها.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: «ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا، فيذرها قاعا صفصفا، لا ترى فيها عوجا ولا أمتا»، (سورة طه الآيات:): 107-105 وتدل هذه الآيات وما سبقها أن النبي صلى الله عليه وسلم في إجابته أمثال أولئك السائلين كان يعلمهم ألا يسألوا إلا عما هو من خصيصات الرسالة ومتعلقاتها.