قمة «الناتو».. تحديات وخلافات

04:21 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. محمد فراج أبو النور *

تنعقد قمة «الناتو» في لندن الأسبوع القادم (ال 3 وال 4 من ديسمبر) وسط تحديات غير مسبوقة وخلافات عميقة تلبد أجواء العلاقات بين أعضائه الكبار بالغيوم، وتعكر صفو الطابع الاحتفالي بمرور سبعين عاماً على تأسيس الحلف العتيد.
إذا كان الرئيس الأمريكي ترامب، منذ وصوله إلى السلطة، قد أشعل التوتر في علاقات بلاده بالشركاء الأوروبيين بانتقاداته الحادة لهم بسبب ضعف مساهماتهم في موازنة الحلف، وتحميلهم أمريكا العبء الأكبر في نفقات الدفاع عن أوروبا (نحو 70% من موازنة الحلف)، وهددهم بالانسحاب من «الناتو» إذا لم ينفذوا اتفاقاً سابقاً برفع نسبة إنفاقهم العسكري إلى (2%) من إجمالي الناتج المحلي بحلول عام 2024.. ووجه سهام انتقاداته بصورة خاصة إلى ألمانيا، كبرى بلدان الاتحاد الأوروبي وأكثرها غنى.. إذا كان ترامب قد فعل ذلك، فإن الرئيس الفرنسي ماكرون هو الذي أشعل الأجواء الأطلسية هذه المرة بحديثه عن حالة «الموت السريري» التي يعيش فيها «الناتو»، ومطالبته بإعادة النظر في التوجهات الاستراتيجية للحلف، وآليات اتخاذ القرار فيه، موجهاً انتقاداته الحادة للولايات المتحدة بسبب انسحابها من شمال شرقي سوريا من دون تنسيق مع الحلفاء، وبسبب إعطائها الضوء الأخضر لتركيا لغزو الشمال السوري، بما يحمله ذلك من مخاطر إطلاق موجة جديدة من الإرهابيين نحو أوروبا، واتهم ماكرون الولايات المتحدة «بالخشونة» في التعامل مع روسيا، وممارسة الضغط على الاتحاد الأوروبي للاستمرار في فرض العقوبات عليها، وأنها تتصرف مع موسكو «بأنانية سياسية وتاريخية»، وهو الأمر الذي يعود بنتائج سلبية على الأمن والسلام في أوروبا.. وتقديرنا أن هذا جزء بالغ الأهمية من حديث ماكرون «للإيكونوميست» لم يأخذ حقه من التغطية الإعلامية والتحليل الضروري.
أثارت تصريحات ماكرون عن «الموت السريري» للحلف عاصفة من الجدل في أوساط «الناتو».. وسارعت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل - حليفة ماكرون المقربة - إلى القول بأنه «يبالغ»، وسعى سياسيون ووزراء خارجية أوروبيون، وألمان بصفة خاصة، لمحاولة تهدئة الأجواء المتأججة.
وكانت العاصمة البلجيكية بروكسل، مقر قيادة الحلف، قد شهدت اجتماعين متزامنين (في ال 20 من نوفمبر) من وزراء خارجية ووزراء دفاع دول الحلف للإعداد للقمة، حيث تقدم وزير الخارجية الفرنسي لودريان باقتراحات ومطالب لمراجعة أسلوب اتخاذ القرارات في مؤسسات الحلف.. بينما اقترح وزير الخارجية الألماني هايكو ماس تشكيل لجنة خبراء بقيادة أمين عام الحلف يانس سولتنبرج، لبحث سبل «تعزيز العملية السياسية» داخل «الناتو»، وهو ما تم الاتفاق عليه.
وحرص سولتنبرج على التقليل من أهمية الخلافات، مشيراً إلى أن أي محاولة لإبعاد أوروبا عن أمريكا الشمالية ستؤدي إلى انقسام أوروبا أيضاً.. ولذلك فإن الوحدة عبر الأطلسي ضرورية جداً، وأي عمل لتعزيز الدفاع الأوروبي محل ترحيب، شريطة ألا يتناقض مع «الناتو». ومع اعترافه بوجود خلافات حول التجارة والمناخ والملف النووي الإيراني، والوضع في شمال سوريا، فإنه اعتبر أن «هناك 3 مشاكل تزعزع استقرار الحلف هي سلوك كل من ترامب وأردوغان وماكرون» بنفس الترتيب.

التحديات الحقيقية

فهل صحيح أن هؤلاء الرؤساء الثلاثة «هم المشكلات الثلاث التي تزعزع استقرار الحلف» أم أن هناك مشكلات وتحديات موضوعية أكبر من أي فرد، مع التسليم بأن شخصية أي رئيس، وخاصة لدول كبرى أو مهمة، ستكون لها انعكاساتها على مسار الأحداث؟
ولنبدأ بماكرون مفجر الأزمة الأخيرة، صحيح أن كلامه حول «الموت السريري» لحلف شمال الأطلسي ينطوي على مبالغة لا شك فيها، فالحلف «الميت سريرياً» قد اتخذ وزراء دفاعه في اجتماعهم الأخير قراراً بالاقتراح على قادتهم بإنشاء قيادة للحرب الفضائية، باعتبارها مجالاً أمنياً (إلى جانب المجالات البرية والبحرية والجوية والمعلوماتية).. كما أعد الوزراء تقريراً (سرياً) لتقديمه إلى القادة حول سبل مواجهة القوة الصينية، وهو يضم عدداً من أقوى دول العالم اقتصادياً وعسكرياً، في مقدمتهم أمريكا.
لكن ماكرون بحديثه عن روسيا والصين يضع يده على أكبر تحدٍّ يواجه «الناتو» والغرب وأمريكا بالطبع، نعني (التحالف الروسي - الصيني) الذي يدفع الغرب موسكو دفعاً إليه.. بما يسميه ماكرون التعامل «الخشن» مع روسيا.. بالإصرار على حشد قواته على حدودها. بعد توسع «الناتو» شرقاً، ومحاولة ضم أوكرانيا للحلف، وإقامة «الدرع الصاروخية» بالقرب من حدودها.. والإصرار على الاستمرار في فرض العقوبات الأوروبية عليها.
ويرى ماكرون، ومعه منظرون وخبراء استراتيجيون ليسوا بالقليلين، أن هذه الاستراتيجية الغربية لم تفلح في منع روسيا من تطوير قواتها العسكرية النووية والفضائية، بما في ذلك تحقيق تفوق في بعض أنواع الأسلحة (كالصواريخ فائقة السرعة، وصواريخ الدفاع الجوي، والأسلحة الشبحية من طائرات وصواريخ وغواصات نووية - إلخ)، بما يحافظ لها على قوة الردع النووي، ومن ناحية أخرى فإن خطة أمريكا لنصب الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى في أوروبا لن يهدد الأمن الروسي وحده، وإنما الأمن الأوروبي أيضاً، لأنها ستكون مستهدفة من جانب موسكو.
والأمر الأهم أن تحالف روسيا والصين - تحت وطأة الإحساس بالخطر والحصار - يضيف إلى العملاق الصيني قوة هائلة، ولسنا بحاجة إلى الحديث عن قوة الصين الاقتصادية والتنامي المتسارع لقوتها العسكرية والعلمية.
وبناء على ذلك يرى ماكرون أن تخفيف الحصار على روسيا وتسوية المشكلة الأوكرانية، ورفع العقوبات عن موسكو، والسعي لإدماجها في أوروبا على المدى الطويل، وربطها بالمصالح الاقتصادية من شأنه أن يضعف تحالفها مع بكين تدريجياً، ومن ثم تصبح مواجهة الغرب للتحدي الصيني أسهل بكثير.

معارضة «أوروبا الشرقية»

وتنطوي هذه الاستراتيجية على محاذير مثل معارضة دول أوروبا الشرقية الصغيرة، لكن لا شك أنها تنطوي أيضاً على قدر كبير من الوجاهة، وبالمناسبة، فقد كان هذا توجه فرنسا منذ أيام رئيسها التاريخي ديجول (أوروبا من الأطلسي إلى الأورال).
أما أمريكا، فإن سياستها الخارجية ثابتة منذ نهاية الحرب الباردة برفض ظهور أي قوة عظمى غيرها، وهي منذ عهد بوش الأب ثم كلينتون وبوش الابن وأوباما حتى ترامب تصر على سياسة «الاحتواء المزدوج» لهذين البلدين الكبيرين.. وهي ترى أن التقارب الأوروبي - الروسي وإنهاء حالة الاستقطاب يعني إفلات أوروبا من قبضتها، وكان نجاح ترامب في الانتخابات، ببرنامجه المعروف يعني تغلب اتجاه النزعة الحمائية والحرب التجارية.. والإهمال التام لمصالح الحلفاء في قضايا مثل البيئة والاحتباس الحراري، وهي تحديات تواجه أوروبا والبشرية كلها.
وأما بالنسبة لأردوغان، فهو بالتأكيد شخصية براجماتية متطرفة (انتهازية).. وهو في هذا ممثل (نموذجي) لتيار الإسلام السياسي والتنظيم الدولي (الإخوان المسلمون).. ويمثل هو وتياره نظاماً مزعزعاً للاستقرار وحاضناً للإرهاب باسم الدين، وبذلك يمثل تحدياً للاستقرار والأمن في الشرق الأوسط وأوروبا وداخل حلف «الناتو».

* كاتب مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"