«الصحة العالمية».. ضغوط للعودة إلى بيت الطاعة

02:35 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. محمد شوقي عبد العال

في الرابع عشر من إبريل/ نيسان الجاري، أصدر الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، قراره بتعليق المساهمة المالية لبلاده في ميزانية منظمة الصحة العالمية، مبرراً ذلك بأن المنظمة قد تواطأت مع الصين في شأن إخفاء المعلومات المتعلقة بفيروس كورونا المستجد، ما أدى إلى انتشار المرض حول العالم انتشاراً سريعاً، وشاملاً، بفعل استمرار السفر من، وإلى الصين وقت انتشار الفيروس فيها، والذي كان يمكن تجنبه إلى حد كبير، لو أن المنظمة كانت أدارت الأزمة بشكل أكثر كفاءة مما فعلت. وهي الادعاءات التي أنكرتها كل من الصين، ومنظمة الصحة العالمية مراراً، وتكراراً.
لاقى القرار الأمريكي بتعليق المساهمة المالية لبلاده في ميزانية منظمة الصحة العالمية، معارضة واستهجاناً شديدين من جانب كل من الأمين العام للأمم المتحدة، ومنظمة الصحة العالمية، والاتحاد الأوروبي، وكثير من دول العالم، على اعتبار أن الوقت غير ملائم لمحاسبة المخطئ، إن كان ثمة خطأ من جانب أحد، وأن دعم جهود المنظمة، مالياً، وفنياً، هو الأجدى في مثل هذه الظروف.
وبغض النظر عن مدى صحة الادعاء الأمريكي بتواطؤ المنظمة مع الصين، وفشلها في إدارة الأزمة، وبغض النظر أيضاً عن مدى تأثير القرار الأمريكي بتعليق المساهمة المالية في أداء المنظمة في الأزمة الحالية، بحكم أن الولايات المتحدة متأخرة بالفعل في أداء مساهمتها هذه، فإن سلوك الولايات المتحدة في هذا السياق ليس مستغرباً لأنه حلقة في سلسلة المساعي الأمريكية الهادفة إلى إحكام سيطرتها على المنظمات الدولية العالمية من جانب، وتقليص حجم مساهماتها المالية في ميزانيات هذه المنظمات، من جانب آخر. وهي مساع لا تقتصر على إدارة الرئيس دونالد ترامب، وإنما تمتد في تاريخ العلاقة بين الولايات المتحدة وهذه المنظمات منذ أمد بعيد، وإن كانت إدارة ترامب هي أكثرها صراحة في هذا السبيل.

مساعي السيطرة

والحق، أن استخدام سلاح التمويل والتهديد بالانسحاب من المنظمة كان على الدوام وسيلة من وسائل بعض الدول الأعضاء، وعلى وجه الخصوص الدول الكبرى، التي تسهم بجزء كبير من ميزانية المنظمة، كالولايات المتحدة الأمريكية، التي قد تتأخر في سداد مساهماتها، أو تمتنع عن ذلك كوسيلة من وسائل الضغط السياسي على المنظمة لإجبارها على تبني وجهة نظر هذه الدولة في مسألة من المسائل المعروضة على المنظمة، أي العودة إلى بيت الطاعة.
وواقع الأمر أن الضغط على الأمم المتحدة، على سبيل المثال، من باب الامتناع، أو حتى مجرد التأخر، عن سداد مستحقاتها المالية المقررة في ميزانيتها السنوية العادية، أو في الميزانية الخاصة لعمليات حفظ السلام التي تضطلع بها، كانت، ولم تزل، جزءاً من مساعي الدول الكبرى المستمرة في سبيل إحكام السيطرة على الأمم المتحدة، وتسخيرها لمآربها. وكان الاتحاد السوفييتي امتنع تماماً، خلال ستينات القرن الماضي، عن سداد ما عليه في ميزانية قوات حفظ السلام، اعتراضاً على إنشائها استناداً إلى قرار الاتحاد من أجل السلام الذي كان يعتبره قراراً باطلاً. أما الولايات المتحدة الأمريكية، فقد استخدمت هذا السلاح مراراً وتكراراً. فقد استخدمته الإدارة الأمريكية خلال فترة حكم الرئيس رونالد ريجان، كأداة سياسية في مواجهة الأمم المتحدة. وكانت قيمة المساهمة الأمريكية في الميزانية العادية للمنظمة تبلغ 25 في المئة من الميزانية الكلية لها، وهو ما يمثل، من دون أدنى شك، وسيلة هامة للغاية من وسائل الضغط التي يمكن أن تمارسها - وقد مارستها بالفعل - الولايات المتحدة بحق الأمم المتحدة.

تأخير مقصود

ولئن كان بدا بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي، أن الوضع سيتغير في هذا السياق إلى الأفضل، حين تعهد الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب عام 1990 بدعم الأمم المتحدة وأنشطتها، فإن المناورات الأمريكية في عهد الرئيس جورج بوش الابن استمرت، حيث أعلنت الإدارة الأمريكية أن الولايات المتحدة لن يكون بإمكانها أن تقوم بدفع أموال المساهمة في ميزانية المنظمة الدولية، ما لم تصادق الأخيرة على قانون حماية الجنود الأمريكيين المساهمين في قوات حفظ السلام حول العالم من الخضوع لولاية المحكمة الجنائية الدولية. ولسنا بحاجة إلى مزيد من التفاصيل في هذا السياق، فأقوال الرئيس الأمريكي الحالي، دونالد ترامب، وأفعاله في هذا السياق تغني عن المزيد. فقد بلغت متأخرات الولايات المتحدة، أو إن شئنا الدقة فلنقل ديونها، حتى عام 2019، لمصلحة الميزانية العادية للأمم المتحدة ما يزيد على المليار دولار، إضافة إلى مليارين وثلاثمئة مليون دولار لمصلحة ميزانية قوات حفظ السلام.
وفي ما يتعلق «باليونيسكو» فقد انسحبت الولايات المتحدة منها في الحادي والثلاثين من ديسمبر/ كانون الأول 2017. وجاء في تبريرها لهذا القرار أنه يعكس قلق الولايات المتحدة تجاه ضرورة إجراء إصلاحات جذرية في المنظمة، وتجاه استمرار الانحياز ضد «إسرائيل» في المنظمة.

أسباب واتهامات

على أن حقيقة هذه الدوافع إنما تتمثل في رغبة أمريكية أصيلة في إحكام السيطرة على المنظمة، عبر التأثير فيها بالانسحاب، وما يعنيه من فقدان المنظمة المساهمة الأمريكية في ميزانيتها التي تبلغ 20 %، وهو ما ظهر جلياً عندما انسحبت منها في المرة الأولى أواخر عام 1984، ثم في هذه المرة، ويؤكده امتناعها عن سداد حصتها المالية في السنوات الأخيرة، فضلاً عن الموقف الواضح للرئيس دونالد ترامب، من وجوب تقليص المساهمات المالية الأمريكية في المنظمات الدولية، بما فيها «اليونيسكو»، بطبيعة الحال، والتي أشار في حملته الانتخابية مراراً، إلى أنها تحصل على الأموال الأمريكية، وتعمل ضد المصالح الأمريكية.
ولعل من المهم في هذا السياق، وللتأكيد على المعاني التي أشرنا إليها في شأن الدوافع الحقيقية للانسحاب الأمريكي، أن نشير إلى أن الولايات المتحدة عندما انسحبت منها للمرة الأولى أواخر عام 1984، وفي معرض تبريرها للانسحاب، راحت تبدي أسباباً رسمية لتبرير هذا القرار، تمثلت في اتهامين أساسيين للمنظمة، هما غلبة الطابع السياسي بشكل متزايد على أعمالها، من جانب، واتهام المدير العام «لليونيسكو»، السنغالي أحمد مختار امبو، بسوء إدارة المنظمة، ما أدي إلى تضخم الجهاز الإداري، وتفشي التسيب المالي، وتزايد أعداد الموظفين من دول العالم الثالث على نحو أضعف من كفاءة الأداء بالنسبة للأعمال المطلوبة من الجهاز الإداري، من جانب آخر. وهي المبررات نفسها التي ساقتها عند الانسحاب منها للمرة الثانية، وما ساقته نفسه، مع اختلاف السياق، في شأن تجميد المساهمة في ميزانية منظمة الصحة العالمية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"