الأرض تغني بالعربية

02:53 صباحا
قراءة 5 دقائق

 القاهرة: مدحت صفوت

«الشعر ديوان العرب»، ومع ذلك يبدو الاهتمام طوال نصف قرن تقريباً، بفن الرواية العربية، اهتماماً عربياً وأجنبياً، من ناحية النشر والمتابعة والنشر والمراجعة، ومن ثمّ الترجمة. ومع إقرارنا باستحواذ الرواية على الجانب الأعظم من الاهتمام الغربي ترجمة، فإننا نود أن نحترز منذ البداية من أن الاهتمام بترجمة الأدب العربي، شعراً ونثراً، في تراجع، ويأتي في مرتبة متأخرة قياساً لحركة ترجمة الآداب الأخرى.

وإن كنا اليوم نعاني قلة واضحة في ترجمة الشعر العربي إلى اللغات الأخرى، بخاصة الشعر الحديث، فإن المكتبة الاستشراقية تزخر برفوف عدّة تحوي جهداً كبيراً في ترجمة الشعر العربي القديم، بخاصة شعر الغزل، والقصائد المنسوبة لشعراء مرحلة ما قبل الإسلام، «الجاهلية»، إذ عمد المستشرقون إلى تحقيق وترجمة كثير من دواوين الشعراء العرب القدامى.

وتشير الدراســات فــــي مجـــــال الاستـــشراق إلى أن الأدب العربــــي لم يكن بعيداً عن اللغات الأخرى، بخاصة في الأندلس، لما أثاره الشعر الأندلسي من جدل بين العرب والإسبان، إذ رأى الطرف الأخير أن النتاج الأندلسي العربي تراث إسباني، لكونه نظم في بلادهم، فضلًا عن وجود الألفاظ الأعجمية، ومن أبرز أعلام أصحاب هذا الاتجاه المستشرق الإسباني إميليو جرثيا جومث. فيما عني الألمان بالشعر الجاهلي، واعتبروه خير شعر العرب، كما أن قيم القوة، والحرية، والفردية، قيم مشتركة في الفكر الألماني، والأدب العربي الجاهلي، ولهذا يتيسر فهمه على الألمان، بينما يرى بعض الدارسين في مجال الاستشراق الألماني أن القارئ الألماني يجد صعوبة في فهم الرواية العربية الحديثة، لغموض خصائصها المحلية من جهة، ولكون الرواية فناً غربياً، من جهة ثانية.

ونعتقد أننا في احتياج، أكثر من أي وقت آخر، لأن يسمع العالم صوتنا، ويقرأ إبداعنا، ويفهم ثقافتنا، الأمر الذي يثقل مهمة حركة الترجمة من العربية، والمشكلات التي تواجهها، ويزيد من الآمال التي يعقدها المبدعون على ترجمة أعمالهم، بخاصة الدواوين الشعرية، لكونها عملية تسهم في التعريف بالعرب، وثقافتهم، وإنتاجهم في جنس أدبي له تاريخه عند العرب، ويمكن أن يحقق الشعر، والفنّ عامة، ما تعجز عن تحقيقه الدبلوماسيات.

والحديث عن ترجمة الشـعر، عموماً، والشعر العربي خاصة، يستدعي بداية الحديث عن أهمية الترجمة بشكل عام، ومن ثم الدور الذي قد تضطلع به ترجمة الشعر، في ظل اعتبار الكثير من الدارسين والباحثين أن ترجمة الشعر إحدى أكثر المهام صعوبة وتحدياً لكل مترجم، لأنه لا يوجد تكافؤ الند عند المقارنة بين لغتين. وحتى لو امتلك المترجمون معرفة عميقة باللغة المصدر، فلن يكونوا قادرين على خلق نسخة طبق الأصل من النص الأصلي.

معاناة

فــي واقع الأمر، تعانــي مسيرة الترجمـة، ســواء إلى العربية أو منها، فــي العالم العربي، الكثير من المشكلات والعوائق التي تحول دون القيام بأدوارها على الوجه الأكمل. وترتبط هذه المشكلات والمعوقات بالسياق السياسي، والاجتماعي، والثقافي للعالم العربي منذ قرنين من الزمان تقريباً؛ حيث بداية حركة الترجمة كنشاط اجتماعي، وتنويري، واستقلالي، وداعم للنهضة والتحديث في عهد محمد علي. ورغم أن بداية الترجمة تمت برعاية الدولة، فإن الرعاية الحكومية للترجمة لم تنتج في النهاية سوى رقم متدنّ، ومحدود من الإصدارات، ما يعكس غياب رؤية وخطة عربية عامة، أو محلية، تعي مقومات العصر، وتحدياته، وتمثل استجابة لها. كذلك يغيب الاهتمام بالمترجم إعداداً وتنمية، على الرغم من كونه منفذ المجتمع للانفتاح على ثقافة الآخرين، ومن ثم التحرر من بئر الانغلاق والتقوقع داخل شرنقة ثقافات الأنا المهيضة؛ بل حفزنا على النفاذ بفكرنا في دائرة فكر الآخر.

لكن الإهمال، وترك العملية برمتها للجهود الفردية، ليسا الإشكالية الوحيدة، فالكتابات المترجمة تعاني أيضاً بعض الإشكاليات التي لم تحسم بعد. والحقيقة أن أخطر ما تعانيه الترجمة هو اختزالها في نقل المفاهيم من دون الإشارة إلى تحيزاتها، حيث يتبدى من خلال المفردات نموذج حضاري متكامل، تعجز عنه الترجمة الحرفية عن نقله؛ بل إنها تطمس معالمه أحياناً، وتفصل المصطلح عن النموذج الحضاري الكامن وراءه. وفى رأس البعض تمثل هذه الإشكالية نتيجة لتغليب كثير من المترجمين قيمتي الصحة، والدقة، بعيداً عن المساءلة الناقدة.

أيضاً، ثمة فارق بين الترجمة العلمية في مجالات البحوث العلمية التطبيقية، والترجمة الأدبية في مجال الدرس الأدبي، فالأولى تمتاز إلى حد كبير بالدقة، والانضباط، والحرفية، في حين نلاحظ مع الأخيرة وعورة المسالك التي تسلكها؛ حيث تتداخل الثقافات والأنساق، وتختلف البنى النحوية، والمخزون المعجمي للغات. فتبرز بذلك خطورة الاستراتيجيات، ومواجهة الثنائيات المشهورة في هذا المقام بين لغة المصدر، واللغة المستهدفة، وبين ثقافة المنشأ، وثقافة التلقي، وبين الأمانة الحرية، ثم التماس الحلول، وحسم الخيارات بين أنواع المكافآت، شكلية وديناميكية، ووظيفة ومقامية.

ويمكن أن نضيف إلى ما سبق خصوصية ترجمة الشعر، وما يفقده من دلالات الألفاظ، فالشعر صعب، لأن اللغة نظامٌ، بينما الكلمة الشعرية حضور، ومن ثمّ تفقد القصائد المترجمة التعبيرات الطازجة التي تحمل في لغتها الأصلية الكثير من الإيحاءات، ويجري التركيز على نقل البناء الفني للقصيدة، كذلك الصور الشعرية التي تعد لبنات أساسية فيها، وتحافظ على المضمون الشعري الذي يتمثل في رسالة الشاعر التي يريد أن يبلغها.

معوقات

لا يمكن بالتأكيد أن نحصر مشكلات ترجمة الشعر العربي إلى اللغات الأخرى في مشكلات تقنية تخص اللغة الشعرية، والطاقة المهدرة عند نقل القصيدة من لغة إلى أخرى، فثمة أسباب أخرى موضوعية ومادية لابد من إعادة النظر فيها إن أردنا تحسين الواقع، وتخطي المرحلة الراهنة، بما لها وما عليها.

وفي الوقت الذي تمنحنا فيه الدوريات والصحف معلومات عن ترجمة مستمرة للشعر العربي إلى اللغات الأخرى، بخاصة نصوص أسماء مثل محمود درويش، وأدونيس، ونزار قباني، وسركون بولس، وغيرهم، فإن النظر إلى حركة الترجمة الشعرية من العربية، ينبئنا أنها تكاد تقتصر على جهات متخصصة بعينها، تخاطب النخب الأوروبية، وفي طبعات محدودة للغاية؛ فقد رصدنا قبل عامين، وخلال زيارة علمية لدول الشمال الأوروبي، بمحدودية طبعات الشعر العربي المترجم، فضلاً عن الاهتمام بالشعر الأيديولوجي المعبر عن الصراعات المسلحة التي تشهدها بعض الدول العربية، بخاصة سوريا.

وعلى صعيد متصل، تواجــــه ترجمة الشعر العربــي صعوبات في الاختيار، بخاصة في ظل بحث الغرب عن قــراءة معمقة للمشهد العربي الأدبي بعيداً عن الأيديولوجيا، والنظرة الأوروبية القديمة التي تشكلت من خلال الميثولوجيا التي حددت نظرة الغرب إلى الآخر العربي، وخلقــت الشخصيـــة الغريبـــة المسكونة بالخرافـة، والتخلـف، والكسل، والغيبيات، وهي نظرة استشراقيـــة مفادهــا تنميـــط المشرقيين والعرب.

ولا يغفل بالتأكيد دور النواحي المالية، وعدم وجود مؤسسات تهتم بالترجمة، أو جود عــدد كاف من المترجمين، ومن ثمّ يتوجب على الهيئات والمؤسسات الرسمية العربية المعنية بالثقافة في عمومها، والشعر خاصة، أن تضع الخطط والاستراتيجيات لدعم المؤسسات الغربية القائمة على ترجمة الإبداع، والمساهمة في تكاليف ترجمة، ونشر الشعر العربي باللغات الأخرى، أسوة بما تنفذه وزارات الثقافة الغربية، أو الجهات المعنية بتصدير الفكر الغربي.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"