خيارات أردوغان الصعبة

03:14 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. محمد فراج أبو النور *

الإنجازات العسكرية السورية المتلاحقة في كل من حلب وإدلب تسبب إحراجاً شديداً للرئيس التركي أردوغان، وتضع مصداقيته على المحك أمام شعبه وحلفائه من الإرهابيين وأتباع تيار «الإسلام السياسي» في العالم، على السواء، فخلال الأيام القليلة الماضية استعادت القوات السورية السيطرة على طريق حلب - دمشق الدولي بالكامل، ومساحات واسعة من الأراضي التي كانت تحت سيطرة الجماعات الإرهابية.
تمكنت القوات السورية من استعادة السيطرة على المناطق المحيطة بحلب، من الجنوب الغربي والغرب والشمال، بما فيها الأحياء الغربية من المدينة، والمنطقة الصناعية والضواحي والأرياف القريبة منها، لتسيطر على ريف حلب الشمالي والغربي (مساء الأحد 16 فبراير)، ولتصبح المدينة الكبيرة آمنة تماماً من إمكانية وصول قصف الإرهابين إليها. ولا شك أن هذا إنجاز استراتيجي مهم بقدر أهمية حلب.
ومن ناحية أخرى، تستمر المعارك في المناطق القريبة من مدينة سراقب الاستراتيجية، التي استعادتها القوات السورية، مؤخراً، وحول طريق حلب - اللاذقية الدولي، الذي تمكن الجيش السوري من اختراقه، وتواصل القوات القتال من أجل توسيع سيطرتها على المناطق المحيطة به.

إمدادات تركية للإرهابيين

يحدث ذلك على الرغم من إنذارات أردوغان المتوالية لدمشق، بأنه سيطرد قواتها من إدلب، إلى ما وراء نقاط المراقبة التركية (بمقتضى اتفاق سوتشي في سبتمبر 2019)، إذا لم تنسحب طواعية حتى نهاية فبراير / شباط الجاري! وذلك على الرغم من تدفق آلاف الجنود الأتراك على نقاط المراقبة.. وتدفق الأسلحة والعتاد والذخيرة التركية على المنظمات الإرهابية. وقد زود نظام أردوغان الإرهابيين بأعداد كبيرة من الدبابات والمدرعات وناقلات الجنود، إلا أن التطور الخطير فعلاً كان تزويده لهم بصواريخ مضادة للدروع وللطيران من طُرز متطورة، مزودة بأدوات الرؤية الليلية.

مأزق أردوغان

معروف كذلك أن الجيش السوري قصف القوات التركية مرتين، وأوقع بينها خسائر في الأرواح (13 قتيلاً) وإصابات لعدد من الجنود.. وتحدث أردوغان في المرتين عن هجمات تركية ضخمة بالطيران، و«تحييد» 76 جندياً سورياً في المرة الأولى، وأكثر من 100 في المرة الثانية.. ومهاجمة عشرات المواقع السورية داخل إدلب وخارجها، إلا أن مركز المراقبة في قاعدة «حميميم» أكد أنه لم يحدث انتهاك للمجال الجوي السوري «في المرة الأولى على الأقل»، ولم يتعرض هذا العدد الكبير من المواقع السورية للقصف، بل إن المرصد السوري لحقوق الإنسان، الموالي للغرب، نفى حدوث الغارات الواسعة التي تحدث عنها أردوغان، وذكر أن شهداء الجيش السوري نتيجة للقصف التركي لم يزد عددهم على (13 شهيداً)! وواضح أن أردوغان يبالغ كثيراً في خسائر القوات السورية، حفاظاً على ماء وجهه أمام شعبه وجيشه وأنصاره، وأن السبب نفسه «الحفاظ على ماء الوجه» هو ما يفسر إنذاراته المؤجلة لدمشق بالانسحاب إلى خطوط ما قبل هجوم الخريف، وهو مطلب غير معقول بالطبع، ويوحي بعدم الجدية!

خيارات أنقرة الصعبة

والواقع أن أردوغان يواجه خيارات صعبة، أحلاها شديد المرارة، إزاء الهجوم السوري القوي، الذي يحقق نجاحات عسكرية كبيرة، والدعم الجوي الروسي للجيش السوري، والخسائر الفادحة التي تتعرض لها المنظمات الإرهابية، والهزائم التي تواجهها، والتي هي لا شك فيها هزائم لأردوغان نفسه، فكل السيناريوهات التي يمكن أن يختار بينها أردوغان تعترضها مشكلات كبيرة، ويمكن أن تترتب عليها نتائج شديدة الإيلام.
1 - سيناريو وقف إطلاق النار، وانسحاب القوات السورية إلى مواقعها السابقة على الهجوم الأخير «دعك من الحديث عما قبل هجوم الخريف»، وهو سيناريو من الواضح أن دمشق لا يمكن أن تقبل به بعد المكاسب العسكرية الكبرى التي حققتها.
كما أن موسكو أيضاً لا تقبل به، خاصة بعد مراوغات أردوغان في تنفيذ التزامات «اتفاق سوتشي» الخاص بإدلب، وأولها سحب الإرهابيين من منطقة عازلة بعرض (15-20 كم2) وتجريدهم من أسلحتهم الثقيلة، وفصلهم عن المنظمات المسلحة الأخرى، غير المشمولة بتعريف الأمم المتحدة للإرهاب، وتسيير دوريات روسية - تركية مشتركة في المنطقة العازلة ... إلخ. على أن يتم ذلك كله بحلول ال 15 من يناير 2019. وهو ما فع
ل أردوغان عكسه بالضبط، على الرغم من مناشدات الروس المستمرة، بل وزوّد المنظمات الإرهابية بطائرات مسيرة تحاول قصف قاعدة «حميميم» الروسية باستمرار! ولم يلتزم أردوغان بأي جدول زمني لتنفيذ الاتفاق.
وكان طبيعياً أن تضيق روسيا ذرعاً بكل هذه المراوغات، وما تعبر عنه من روح عدائية، وأن يعلن بوتين أنه لا يمكن ترك إدلب مرتعاً للإرهاب. وأن تصفيته «حتمية»، وهو ما كرره لافروف مؤخراً. ونلاحظ أن بوتين رفض لقاء أردوغان في ظل الأوضاع الحالية.
2 - سيناريو تزويد المنظمات الإرهابية بأسلحة متقدمة من شأنها إعاقة التقدم السوري الكبير، بما في ذلك الصواريخ المضادة للطائرات «لشل التفوق الجوي الكاسح»، وإقامة مزيد من نقاط المراقبة التركية المدججة بالسلاح، لتمثل تهديداً تركياً للقوات السورية. مع مشاركة القوات التركية بقصف الجيش السوري المتقدم. وقد لاحظنا أن القوات السورية تفادت الاشتباك بهذه النقاط، التي أصبح نحو نصفها محاصراً، وبمنزلة «رهينة» في يدها في حالة نشوب مواجهة شاملة.
3 - سيناريو المواجهة الشاملة الذي يهدد به أردوغان، والذي نرجح أنه لن يستطيع الإقدام عليه بسبب علاقات القوى العسكرية في الميدان، وبسبب المصالح الكبرى المتشابكة مع روسيا، وما ينطوي عليه الصدام الواسع من مخاطر جدية للهزيمة.

الدور الأمريكي

هذه هي أهم السيناريوهات الممكنة «نظرياً»، وهنا يجب أن نلاحظ أن دخول أمريكا على الخط يعقد المشكلة، لأن واشنطن متهمة بتحريض أردوغان على التصلب، لتسميم علاقته مع روسيا وتصفية حساباتها مع موسكو. فقد أعلنت واشنطن عن استعداداتها لدعم تركيا بمعلومات مخابراتية «لا نظنها تنقصها».. ومعدات عسكرية، كما أعلن بومبيو دعم بلاده لتركيا «باعتبارها بلداً أطلسياً»، وأخيراً أعلن ترامب نفسه دعم تركيا وعداءه للموقف الروسي.
لكن أردوغان، الذي يهوى اللعب على التناقضات بين موسكو وواشنطن، يصعب أن ينسى التحالف الأمريكي مع الأكراد، أعدى أعدائه، ولا سحب «الناتو» بطاريات «باتريوت» بعد حادث إسقاط الطائرة الروسية (2015)، ونعتقد أنه يميل إلى ابتزاز روسيا بالموقف الأمريكي، من دون أن يصغي بصورة جدية لتحريض واشنطن.
لذلك نرجح أن أردوغان سيضطر للجوء إلى السيناريو الثاني، أي الاتفاق بعد مراوغات ومماطلات، في محاولة لتقليل تنازلاته وخسائره، والحفاظ على ماء وجهه، لأن السيناريو الأول مستحيل، والثالث شديد الخطورة. لكننا لا بد أن نقول: إنه في حالة سياسية كأردوغان الذي يتسم بكثير من الرعونة والغطرسة، ويميل إلى سياسة «حافة الهاوية»، فإن احتمالات الخطأ في الحسابات، أو الغباء السياسي والاستراتيجي يصعب استبعادها تماماً، غير أن هذه أمور لا تدخل في مسؤولية المحلل السياسي! وندعو الله ألا تحدث، حتى لا تقع كارثة تحرق المنطقة كلها.

* كاتب مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"