“مذابح الهنود الحمر” جريمة لاتسقط بالتقادم

بشهادة رجل دين
12:45 مساء
قراءة 5 دقائق

صدر عن دار الفضيلة بالقاهرة كتاب بعنوان مذابح الهنود الحمر ترجمته سميرة عزمي الزين ضمن منشورات المعهد الدولي للدراسات الانسانية بالولايات المتحدة، ثم أعاد نشره بمقدمة جديدة د. محمد بن أحمد بن خلف الحسيني. ويقدم الكتاب الثاني ترجمة لوثيقة بالغة الخطورة وهي عبارة عن رسائل رجل الدين المسيحي برتولومي دي لاسي كازاسي الذي عاصر فتح أمريكا وشاهد بعينه المذابح التي ارتكبها الإسبان

حسبما ذكر د. الحسيني في المقدمة، فإن لاسي كازاسي ولد عام ،1484 وعندما بلغ الثامنة عشرة من عمره أبحر مع الإسبان إلى العالم الجديد آنذاك وقضى هناك نحو أربعين عاما لم ير خلالها سوى المذابح، لذلك كتب حصيلة مشاهداته في هذا الكتاب الذي صدر عام 1542م وأهداه إلى ملك إسبانيا فيليب الثاني.

جدير بالذكر أن المؤلف أبحر إلى جزيرة سان دومينجو بعد أن أنهى دراسة اللاهوت عام 1502 ثم عين كاهنا عام 1513 وبذلك كان أول راهب إسباني يعين رسميا في العالم الجديد الذي كان الإسبان قد اجتاحوه. وبعد أن رأى كل هذه المذابح الوحشية التي ارتكبت أمامه وحصدت حسب تصوره ما لا يقل عن مليار من البشر، حاول الكتابة لملك إسبانيا طالبا منه التدخل، لكن أمريكا آنذاك كانت منجما لا ينفد من الذهب والعبيد واللؤلؤ والأراضي الشاسعة الخضراء، لذلك فشلت كل جهودها فيما عدا ما جرى عام 1540 عندما منحه حاكم جواتيمالا الإسباني منطقة حراما وأوكل إليه أمر تحويلها إلى أرض سلام، لكن موجة التهديد والعدوان واجهته من كل الامبراطورية الإسبانية ففشلت التجربة.

وبعد عامين عاد إلى إسبانيا وطالب بتدخل القضاء، فضحك منه القضاة وراحوا يتندرون عليه باعتباره مجنونا أو أبله، لذلك اختار العزلة وأمضى السنوات الأخيرة وحده في بيته يكتب حصيلة مشاهداته التي بقيت كل هذه السنين شاهدا على الوحشية الأوروبية وعدوانها.

من جانب آخر، يجب أن نضع في اعتبارنا أن كازاسي لم يكن هنديا أحمر أو معاديا لإسبانيا، بل كان أحد جنودها الذي أرسلته إسبانيا ذاتها للتبشير وهداية الهنود الحمر إلى دين المحبة والوئام والمساواة، فهي إذن شهادة شاهد من أهلها وتكتسب مصداقية ولا يمكن الشك في الأهداف التي دفعته لكتابة شهادته النادرة.

وجه كازاسي كتابه، ومنذ السطور الأولى، إلى ملك إسبانيا قائلا: إنني أريد أن أحدثكم يا مولاي عن الشرور والآثام، وعن الدمار والخراب في هذه الممالك الكبيرة، أقصد هذا العالم الجديد الشاسع المسمى ببلاد الهنود الحمر التي وهبها الله لملوك قشتالة وأناطها بهم ليسوسوها ويصلحوا أمرها ويهدوا أهلها إلى المسيحية فينعموا عليها بأمل الدنيا والآخرة. ويضيف الأب كازاسي أنه عاش في هذه البلاد نحو 50 عاما شاهد خلالها إفناء ما يقرب من مليار من البشر المسالمين المتواضعين ونهب كنوز لا تقدر بثمن، لذلك عزم على أن يبرئ ساحته من هذه الجريمة بالكتابة للملك طالبا تدخله، فعلى سبيل المثال ومنذ فتح أمريكا عام 1402م، تم التخلص تماما من سكان 60 جزيرة وهو يصف مشهد اقتحام الإسبان على النحو التالي: كانوا يدخلون القرى فلا يتركون طفلاً أو حاملاً أو امرأة تلد إلا ويبقرون بطونهن ويقطعون أوصالهن كما يقطعون الخراف في الحظيرة، وكانوا يراهنون على من يشق رجلا بطعنة سكين، أو يقطع رأسه أو يدلق أحشاءه بضربة سيف، وكانوا ينتزعون الرضع من أمهاتهم ويمسكونهم من أقدامهم ويرطمون رؤوسهم بالصخور، أو يلقون بهم في الأنهار ضاحكين ساخرين أو يحرقونهم أحياء.

فماذا فعل الهنود إذن حتى يتم التمثيل بهم؟

المثير للدهشة أنهم استقبلوا الفاتحين أول الأمر بسعادة غامرة وقدموا لهم كل مساعدة واقتسموا معهم طعامهم القليل، فعندما دخل الإسبان مملكة جواتيمالا مثلا استقبلهم اكبر أشراف المملكة وأهدوهم الغالي والنفيس وأقاموا لهم مأدبة كبيرة، وفي اليوم التالي نادى القبطان كبار أشراف المملكة وسجنهم جميعا حتى يعطوه ما معهم من ذهب، وعندما أجابوه بأنهم لا يملكون ذهبا وأراضيهم خالية فأمر جنوده بإحراقهم على الفور.

وعندما رأى الهنود أنهم لا يستطيعون مواجهة الإسبان قرروا الانتحار، كانوا شبه عراة ولا يملكون سلاحا وضعاف البنية، ورأى الأب كازاسي بعينيه الكلاب السلوقية تعيش على لحم هؤلاء المساكين. أما عندما وصل احد القادة الإسبان إلى مقاطعة كوزكاتان مدينة سان سلفادور حاليا فإن أكثر من ثلاثين ألف هندي خرج لاستقبال الإسبان وهم يحملون معهم الدجاج والأغذية وبعد أن أخذ الإسبان الهدايا أمر القائد بتوزيع الهنود على الجنود عبيدا فكان نصيب كل جندي 30 عبدا هنديا، وكان هذا معناه بالطبع تشتيت شعب كامل والتفريق بين الأم وابنها والأب والأم والجد ويقرر الأب كازاسي أن هذا القائد بالتحديد هو وشقيقه قاما بقتل أكثر من خمسة ملايين نسمة بين عامي 1524 إلى 1540م، حيث مات الملايين نتيجة الأعمال الشاقة التي كلفهم بها الإسبان مثل حمل قطع المدفعية الثقيلة أو قطع الخشب الكبيرة لبناء السفن.

وهكذا.. كان الإسبان يواجهون الهنود العزل البسطاء وكان هذا السيناريو يكاد يتكرر بحذافيره. كان ما يسعى إليه الإسبان هو نهب أكبر كمية ممكنة من الذهب وإرسالها إلى ملوك إسبانيا والحصول على النياشين والأوسمة، وعندما وصل أحد الطغاة إلى مملكة بيشواكان القريبة من مدينة مكسيكو الآن خرج ملك المنطقة الهندي بنفسه ليستقبل الطاغية وجنوده وقدم لهم الهدايا والحلي، وكان رد الطاغية على هذا الاستقبال الحافل أن أمر بتعذيب الملك حتى يسلم كنوزه فأوثقت قدماه وربطت يداه إلى لوحات من السنديان، ووضعت تحت قدميه محرقة، وأوكل بتعذيبه واحدا من الزبانية الإسبان، كان هذا الجلاد يغمس خرقا بالزيت المحمي ويرش بها جسد الملك ليشوي لحمه جيدا، وكان جلاد إسباني آخر يقف أمام الملك ومعه كلبه السلوقي يهيجه على لحم الملك ويهيج على التهامه. ويضيف الأب كازاسي أن الملك مات بطبيعة الحال دون أن يذكر مكان كنوزه، لأنه ببساطة لم يكن لديه كنوز.

وإذا كان الأب لاسي كازاسي حريصا على أن يذكر مشاهداته الشخصية عبر أقل قليلا من نصف قرن، فإن هناك جرائم أكثر بشاعة لم يكن شاهدا عليها، فمثلا كمية الأمراض التي نقلها الأوروبيون للقارتين أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية لا يمكن حصرها، وعصفت بالملايين ونقلت للقارتين الطاهرتين النظيفتين عشرات الأمراض، وهي أمراض أصابت البشر والحيوانات والشجر والنبات، وإذا أضفنا إلى هذا الأمراض الجنسية التي نقلها الأوروبيون بسبب اغتصاب الهنديات، فإن ما فعله المتوحشون يعد جريمة في حق هذا الكوكب.

وفي هذا السياق لا يمكن إغفال تدمير الإسبان لروح القارتين الطاهرتين. وغني عن البيان أن شعوب القارتين، كانت لهم فنونهم وأغانيهم ومعابدهم وموسيقاهم وأشعارهم وأفكارهم وتقاليدهم التي تشكلت عبر القرون وبمعزل عن العالم بكامله، وقام الأوروبيون بتدمير كل هذا وسحقه بلا رحمه تحت دعوى هداية شعوب القارتين للمسيحية وغني عن البيان أيضا أن الديانة المسيحية بريئة من كل هذه الجرائم التي ارتكبت بحق الانسانية. حيث دمر الأوروبيون حضارة كاملة ولم يقتلوا مليارا من البشر فقط.

كتب الأب كازاسي

وفي الليل كان الجنود الإسبان يربطون الهنود إلى الأرض ويوثقونهم بها حتى لا يهربوا، وكان الهندي المسكين في معظم الأحيان يغوص لصيد اللؤلؤ فيصطاده سمك القرش والحيتان الكبيرة، وهي حيوانات بحرية فتاكة كانت تلتهمه، فليحكم المرء بنفسه إذا كان الإسبان الذين يكرهون الهنود على صيد اللؤلؤ يتبعون تعاليم الله؟، كانوا يجبرون الهنود على الموت جسدا وروحا ذلك لأن هؤلاء المساكين يلفظون الروح بلا إيمان ولا قربان مقدس، فهم يقتلون الهنود بأعداد كبيرة جدا، وخلال فترة قصيرة، فهل يعقل أن يعيش الانسان فترة طويلة تحت الماء من دون تنفس؟.

لا أظن أن جريمة بهذا الحجم يسقطها أو يمحوها الزمن، بل تظل شاهدا على رحمة وإنسانية أوروبا الغازية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"