«الهواء الأصفر» يجتاح أوروبا

02:29 صباحا
قراءة 4 دقائق
بهاء محمود

لطالما ظلت فرنسا ملهمة للثورات في أوروبا، ومتبنية نماذج التمرد على السلطة، منذ ثورة 1789، مروراً بثورة 1848، وحتى انتفاضة الطلاب عام 1968، وطوال عشرات السنوات الماضية دائماً ما كانت هناك احتجاجات بين الشعب والنظام الحاكم، أياً كان يمينياً أو يسارياً، وحتى ما عرف بكونه إصلاحياً وسطياً، فكل من جاك شيراك وساركوزي وهولاند وأخيراً ماكرون، كلهم نالوا نصيباً من الانتفاضات ضدهم، عبر مطالب بعضها اقتصادي، وأخرى سياسية، وبعضها حمل شعار مناهضة العنصرية.
إن حركة «السترات الصفراء» ليست وليدة الصدفة أو حركة عشوائية فجائية كما يدعي البعض، بل ذيولها ممتدة تاريخياً، فبخلاف حركة الطلاب في 1968، تظاهر المواطنون في أعوام 1995 و1997، 2005 و2006 و2010 ومؤخراً في 2017، ومنذ عام من وجود ماكرون في قصر الإليزيه، جاءت نتائج سياسات ماكرون وحكومة إدوارد فيليب، مخيبة بالنسبة لذوي الدخل المنخفض، والذين ازدادت عليهم الضرائب من جانب، وارتفعت أسعار السلع الأساسية ونفقات التعليم الجامعي، فضلا على إلغاء ضريبة الثروة على الأغنياء، كما أن ماكرون بدأ في خصخصة نظام السكك الحديدية، ما سمح بإغلاق المحطات الريفية الصغيرة التي يستغلها الفقراء في النقل.
فليس في مقدور كل سكان الريف الفرنسي استعمال السيارات بديلاً عن السكك الحديدية، وبجوار ما سبق اتسم خطاب ماكرون السياسي بالتعالي، على حد زعم الكثيرين، ومنهم أبرز حلفائه الاشتراكي وزير الداخلية السابق «جيرار كولومب»، وكانت المحصلة حالة غليان مجتمعي، وتوجهت سهام النقد اللاذعة لحكومة إدوارد فيليب ومن قبله الرئيس ماكرون، اللذين اتهمتهما الطبقة الوسطى والفقيرة بأنهما قد خانا وعودهما التي أطلقاها إبان الحملة الانتخابية وباتا يعملان لخدمة مصالح الشركات الكبرى على حساب الطبقات الوسطى والدنيا، فيما وصف ماكرون بأنه رئيس للأغنياء، ومن هنا مثّل رفع أسعار الوقود، القشة التي قصمت ظهر البعير، ليتظاهر المواطنون في ثوب «سترات صفراء» منذ 17 من نوفمبر/‏تشرين الثاني، مستمرين في الاحتجاجات كل سبت وحتى السبت الماضي، في مشهد يتصاعد فيه سقف المطالب من مطالب اقتصادية واجتماعية، إلى مطالب سياسية، برحيل ماكرون وحل البرلمان وتغيير الدستور، وإنشاء عقد اجتماعي جديد، يعرف العلاقة بين الحاكم والمحكوم في فرنسا، ويمنح المواطنين مشاركة حقيقية في الحكم، ومن هنا منطقيا أن يصبح ماكرون الرئيس الأقل شعبية في تاريخ فرنسا، ومع انخفاض شعبيته إلى أقل من 20% تمكن ماكرون من ضرب رقم قياسي أقل من سلفه فرانسوا هولاند، الذي كان أقل شعبية من سلفه ساركوزي، وهو ما يفسر أن هناك فجوة كبيرة بين النخبة الحاكمة والمواطنين على مدى العشر سنوات الماضية، وبالتالي هناك فرصة لإعادة تشكيل المشهد السياسي وإعادة تكوين نخبة جديدة أو على الأقل تغيير في أطروحات النخب الحالية في ظل رفض اليمين الشعبوي في انتخابات الرئاسة الفرنسية السابقة.
لذلك من المتوقع أن تسطع قوى اليسار الوسط، ولطالما يحتاج المواطنون لخطاب وسطي ذي أجندة طابعها العدالة الاجتماعية، وبعيدة تماما عن أطروحات النيوليبرالية، وكذا التطرف بنوعيه اليساري الراديكالي واليميني، وهو ما يمكن قراءته من تكوين أصحاب «السترات الصفراء»، التي يعد أغلبها من الطبقة العاملة المنظمة.
ونظراً للنجاح النسبي الذي حققته حركة «السترات الصفراء»، في استجابة ماكرون الجزئية لبعض مطالب المحتجين، انتقلت العدوى لبروكسل، حيث قامت مظاهرات «السترات الصفراء» البلجيكية في المنطقة الجنوبية، التي يتحدث أغلب سكانها اللغة الفرنسية، وكما هو معروف أن بلجيكا، منقسمة لثلاثة قطاعات بلغات مختلفة وأعراق مختلفة، فتساهم الاحتجاجات في إشعال مطالب الانفصال فضلا على المطالب الاقتصادية. وفي تطور ملحوظ اشتبك المئات من المحتجين مع رجال الشرطة البلجيكية على غرار ما حدث في فرنسا، وأغلق أصحاب «السترات الصفراء» في بلجيكا الطريق السريع «E-40» الواصل بين بلجيكا وفرنسا أمام حركة المرور، وهكذا استمر الكر والفر، لتنتقل حركة الاحتجاج إلى هولندا، حيث تجمع أصحاب «السترات الصفراء» في عدد من المدن الهولندية مثل لاهاي ونيميغن وماستريخت وألكمار، على خلفية الدعوات التي تم تداولها على مواقع التواصل الاجتماعي للاحتجاج على سياسات الحكومة، وطالب المحتجون أولا باستقالة رئيس الوزراء مارك روتا، وطالبوا بقضايا اقتصادية متعلقة بسن المعاش، وارتفاع الأسعار في مجالات الصحة والتعليم، فضلا على أزمات اللاجئين، واستمرت الشرارة وانتقلت إلى عواصم أوروبية أخرى، حيث شهدت العاصمة المجرية بودابست حركة احتجاجية كبيرة، إذ خرجت نقابات العمال المجرية السبت 8 ديسمبر/‏كانون الأول للاحتجاج على قانون الحزب الحاكم الذي وصفته النقابات بأنه «قانون العبيد» مع بعض المطالب الاقتصادية أملاً في ‏تحسن مستوى المعيشة.
وفي سياق متصل خرجت الدعوات في كتالونيا مستمرة في مطلب الانفصال عن إسبانيا، لكن بيدرو سانشيز رئيس وزراء إسبانيا تعامل مع الموقف بطريقة مغايرة، إذ استبق وأعلن عن زيادة في الحد الأدنى للأجور بنسبة ‏‏22 % سوف تقر خلال جلسة لمجلس الوزراء في 21 ديسمبر، ‎وقال سانشيز أمام النواب: إن «المجلس سيوافق في 21 ديسمبر على رفع الحد الأدنى ‏للأجور». وأضاف أن الزيادة ستدخل حيز التطبيق «ابتداء من 2019» وستشكل «أهم زيادة منذ ‏‏1977».
اللافت للنظر هنا أن الاحتجاجات ليست ضد شكل معين من أنظمة الحكم الأوروبي، أو أنها اقتصرت على مطالب اقتصادية فقط، فكمثال يثبت أن اليمين الشعوبي ليس هو المحرك للاحتجاجات، ما حدث من مظاهرات في إيطاليا التي خرجت ضد نظام حكم يميني، ومعترضة على قانون الهجرة المعيب من وجهة نظرهم، ومن جهة أخرى ساوت الاحتجاجات بين الأنظمة السياسية، سواء الاشتراكية أو اليمينية أو الوسط، مع الشكوى من سيادة مؤسسات الاتحاد الأوروبي، فوق سيادة الوطنية لتلك الدول، في ظل الحديث الدائم عن تحكم بروكسل في الموازنات الوطنية، فكل موازنة يجب أن تتوافق مع قوانين الاتحاد ونسبة العجز المتعارف عليها والتي تبدو صعبة مع دول لم تفق حتى الآن من الأزمة المالية العالمية، وعلى رأسها إيطاليا، وبالتالي الإشكالية الكبرى هنا، مرهونة بما يحدث في بروكسل، فمن جانب يوجد فقد في الاتصال السياسي بين النخب الحاكمة والمواطنين، ومن جانب آخر لا توجد سياسات توافقية تناسب كل دول الاتحاد، مع اختلاف أنماط حياتهم ومستويات المعيشة، ومن هنا يبقى الحل لكل الاحتجاجات هو إعادة النظر في معاهدات لشبونة وماستريخت، فضلا على إعادة النظر في سياسات النيوليبرالية، وبغير ذلك ستظل الاحتجاجات قادرة على تهديد تماسك الاتحاد الأوروبي وخطراً على أمن دوله.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"