الاقتصاد الأوروبي في تراجع

05:16 صباحا
قراءة 4 دقائق

احتل مزاد أذون الخزانة الألماني الأخير عناوين الأخبار، مع أن الدول تصدر اذون خزانة وسندات دين كل عدة أيام من دون أن يزيد الاهتمام بها على عدة أسطر في ثنايا أخبار الاقتصاد الكلي في منافذ الإعلام الاقتصادي المتخصصة . ذلك أن المزاد لم يغط سوى ثلثيه، والمعتاد في الظروف الطبيعية أن يكون الاكتتاب أعلى من قيمة المزاد مع إقبال المستثمرين على سندات الدين الخكومي للاقتصادات الكبرى، والصغرى أيضاً، باعتبارها ملاذاً استثمارياً آمناً . لكن مزاد سندات الدين الألماني في الأسبوع الأخير من نوفمبر كان خبراً رئيساً، لأنه يعكس ثقة المستثمرين ليس باقتصاد ألمانيا فحسب بل باقتصاد دول اليورو وأوروبا إجمالاً .

والقشة التي يمكن ان تقصم ظهر البعير الاقتصادي العالمي هي ارتفاع كلفة اقتراض ألمانيا، التي ظلت الفائدة على سندات دينها السيادي أقل بقليل من 2 في المئة . وبما أن ألمانيا وفرنسا هما الدولتان الباقيتان في دول اليورو من دون مشكلات ديون سيادية كبرى فإن أي تغير في وضعهما يهز الاقتصاد العالمي كله . ومع أن فرنسا بادرت بميزانية تقشف لتقليل العجز كي لا يصل إلى مستويات خطرة، إلا أن كلفة اقتراضها ارتفعت إلى نسبة 4 في المئة واقتربت من حد الخطر الذي يقدره السوق ما بين 6 و7 في المئة فائدة على سندات الدين الحكومي .

ولم تسهم الأرقام الرسمية حول منطقة اليورو في تغيير صورة تراجع الاقتصاد الأوروبي عموماً . فإجمالاً، شهد اقتصاد دول منطقة اليورو في المتوسط نمواً ضعيفاً في الربع الثالث من العام، ورغم بعض النمو في الاقتصاد الألماني والفرنسي، إلا أن النمو السلبي أو عدم النمو في اقتصادات أخرى جعل الناتج المحلي الإجمالي لدول المنطقة، وعددها 17 من بين دول الاتحاد الأوروبي، أضعف من الربع الثاني .

فحسب مكتب الاحصاء الأوروبي (يوروستات) كان النمو في الربع الثالث لدول المنطقة بنسبة 2 .0 في المئة وهي نسبة لا تختلف عن نسبة النمو في الربع الثاني . لكن في التفصيل، حقق الناتج المحلي الإجمالي الألماني نمواً بنسبة 5 .0 في المئة مقارنة مع نسبة نمو في الربع الثاني عند 3 .0 في المئة . وذلك نتيجة زيادة في انفاق المستهلكين في الربع الثالث . كذلك الحال مع الناتج المحلي الفرنسي الذي شهد نمواً بنسبة 4 .0 في المئة بعد تباطؤ بنسبة 1 .0 في المئة في الربع الثاني . وبحساب نسبة النمو في الربع الثالث بالمقارنة مع الفترة نفسها العام الماضي، شهد الناتج المحلي الإجمالي لمنطقة اليورو في المتوسط نمواً بنسبة 4 .1 في المئة مقارنة مع نسبة نمو سنوي عند 6 .1 في المئة في الربع الثاني من العام .

الدولتان الوحيدتان من دول اليورو اللتان حققتا نمواً هي سلوفاكيا واستونيا، إذ جاءت نتائج الربع الثالث لتظهر نمو الاقتصاد في استونيا بنسبة 8 .0 في المئة مقابل الربع الثاني وبنسبة 9 .7 في المئة مقابل الفترة المماثلة العام الماضي، وتلك أعلى نسبة نمو بين دول منطقة اليورو . أما سلوفاكيا فحقق اقتصادها نمواً في الربع الثالث بنسبة 7 .0 في المئة مقارنة بالربع السابق، وسنوياً بنسبة 2 .3 في المئة . إلا أن دول أوروبا الشرقية التي دخلت الاتحاد الأوروبي تتوقع الأسوأ مع تعمق الانكماش الائتماني في منطقة اليورو .

وهكذا يبدو توجه منحنى النمو في دول اليورو إلى انحفاض، ويتوقع كثير من المحللين ألا يشهد الربع الأخير من العام (الأشهر الثلاثة التي تنتهي آخر ديسمبر) أي نمو ما يخفض من نسبة النمو السنوي لعام 2011 . وحسب تقديرات معدلة لوحدة تحليل المعلومات في الايكونوميست فإن الناتج المحلي الإجمالي لمنطقة اليورو قد يشهد انكماشاً (نمواً بالسلب) في الربع الرابع بنسبة 4 .0 في المئة ومن ثم لا يحتمل أن يزيد معدل النمو السنوي للعام على 6 .1 في المئة .

أما التوقعات بالنسبة إلى العام المقبل 2012 فهي متشائمة جداً، إذ لا يتوقع أن يحقق الاقتصاد الألماني أو الفرنسي أي نمو في ظل تراجع الانفاق الاستهلاكي نتيجة سياسات تقشف وقائية ومن ثم يمكن أن ينكمش اقتصاد منطقة اليورو بنسبة 3 .0 في المئة في المتوسط في 2012 .

ظل التركيز في التحليلات والتعليقات منذ أزمة الديون السيادية في منطقة اليورو على الخسائر التي يمكن أن تعانيها البنوك والمؤسسات من خارج المنطقة والمكشوفة بشكل مباشر أو غير مباشر على تلك الديون . إلا أن ذلك تجاهل حقيقة في غاية الاهمية والخطورة تؤثر في بقية اقتصادات أوروبا خارج منطقة اليورو . فمع وجود بنوك منطقة اليورو في قلب الأزمة، كونها التي تتحمل القدر الأكبر من الخسائر في أزمة الديون السيادية، تقلص تلك البنوك إقراضها أيضاً وليست المسألة فقط انكماش الإقراض لها من بنوك أمريكية أو من آسيا وغيرها . وحسب بنك التسويات الدولية فإن البنوك في منطقة اليورو هي الاكبر إقراضا خارج من منطقتها من بنوك أي كتلة اقتصادية اخرى .

فبنهاية يونيو الماضي بلغ حجم إقراض بنوك أوروبا الغربية للبنوك في الاقتصادات الصاعدة 6 .3 تريليون دولار، أي ما يوازي 71 في المئة من إجمالي اقتراض بنوك الاقتصادات الصاعدة . ولمعرفة اهمية تأثير توقف بنوك دول منطقة اليورو عن الإقراض لخارج المنطقة في الاقتصادات الصاعدة، نذكر بأن حجم إقراض البنوك الأمريكية لبنوك الاقتصادات الصاعدة هو 765 مليار دولار، أي بنسبة 1 .15 في المئة من إجمالي اقتراض بنوك دول الاقتصادات الصاعدة .

اما المتضرر الاكبر من الانكماش الائتماني وتوقف بنوك دول اليورو عن الإقراض للخارج فهي دول أوروبا الشرقية التي تعتمد على الاقتراض من بنوك أوروبا الغربية في 90 في المئة من اقتراضها الخارجي . أما البنوك في الشرق الاوسط وإفريقيا فتعتمد في 82 في المئة من إجمالي اقتراضها الخارجي على الاقتراض من بنوك أوروبا الغربية . ولنأخذ مثالاً واضحاً للدلالة على تأثير توقف بنوك أوروبا الغربية عن الإقراض على اقتصادات أوروبا الشرقية . فالبنوك الأوروبية لديها ديون مستحقة على جمهورية التشيك تصل إلى 97 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي التشيكي، وهي أعلى نسبة دين للبنوك إلى ناتج محلي في العالم .

خبير اقتصادي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"