الاقتصاد المصري بحاجة إلى “ثورة”

02:45 صباحا
قراءة 4 دقائق

فيما يزخر الإعلام المصري المرئي والمكتوب بالجدل العقيم والحوارات الممجة بشأن التنظير السياسي ومحاولة قوى سياسية هامشية تحقيق مكاسب سريعة، يعاني الاقتصاد المصري مشكلات تهدد بكارثة حقيقية إذا لم يتم اتخاذ إجراءات عاجلة وحاسمة .

وخلال عدة أيام قضيتها في القاهرة، لاحظت للوهلة الأولى من على السطح أن كثيراً من أوضاع الناس لم تتغير، بل ربما زادت سوءاً . وإذا كان طبيعياً ومفهوماً في ظل فترة انتقال وتحول تتميز غالباً بالاضطراب فإن القطاعات الواسعة من جماهير المصريين العادية لا يمكنها الا التفكير ببساطة بأن الانتفاضة الشعبية التي أطاحت الرئيس المخلوع حسني مبارك لم تأت بالكثير على صعيد تحسين أحوالهم . وإذا كانت فئات الشباب المتفتحة قادت تلك الانتفاضة من أجل مثل عليا مثل الحرية والكرامة وضد القمع والتعذيب، وتبعتها قطاعات النخبة القديمة التي انفصلت عن جماهيرها وأحبطت في أي مكاسب من النظام، فإن تلك دائرة لا تتجاوز نسبة بسيطة من رقم واحد من الشعب المصري . أما عشرات الملايين من المصريين، وإن كانوا يتوقون أيضاً للحرية والكرامة، فإنهم التفوا حول انتفاضة 25 يناير بعدما سدت أمامهم كل آفاق الترقي الاقتصادي/ الاجتماعي وهم يرون شريحة طفيلية لا تتجاوز عشرت الآلاف تثري بشكل فاحش وبلا أساس اقتصادي سليم يعود بأي منافع على الناس .

لم يفلح اقتصاديو الكاوبوي في نظام مبارك في سنواته الأخيرة في إقناع ملايين المصريين بأن الخصخصة والسوق المفتوح وتطوير قطاع الخدمات على حساب قطاعات الاقتصاد التقليدية هو الحل الأمثل لمشكلات مصر الاقتصادية بما يضمن مستقبلاً أفضل لهم ولأبنائهم . وإذا كانت تلك السياسات في نحو العقد الأخير نجحت في إقناع المؤسسات الدولية بأن عملية إصلاح تتم في مصر، وأثارت حماسة بعض الاقتصاديين وهم يرون معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي تنمو في نطاق 7 في المئة وبعض مؤشرات الاقتصاد الكلي تتحسن . لكن المشكلة أن رجال نظام مبارك هؤلاء تجاهلوا وأظن عمداً في سياق محاولتهم التعجيل بإصلاح دفاتر البلاد لتقديمها للخارج أن التغيرات الاقتصادية فيها عامل ثقافي/اجتماعي وليس اقتصادياً فحسب . وأعلم أن هؤلاء حاولوا محاكاة تجارب أخرى، لعل أهمها تجربة دبي وبعض تجارب أمريكا اللاتينية، متناسين أن ما قد يناسب مجتمعاً بعينه لا يناسب غيره بالضرورة . وافتقر هؤلاء كبقية النظام السابق لأي ابتكار أو جهد لإعادة صياغة تلك التجارب الاقتصادية بما يناسب

المجتمع المصري في ضوء تطوره في نصف القرن الأخير .

تلك مقدمة ضرورية لمحاولة التعرض للوضع الاقتصادي الحالي في مصر ومخاطره والتحسب لكارثة حقيقية يمكن أن تنسف كل الطموحات الأخرى لمصر الجديدة ما لم تعالج بسرعة وبحسم .

ورغم أن الحكومة الانتقالية الحالية، والمجلس العسكري الذي يدير شؤون البلاد حتى تسليمها لسلطة مدنية، ليس بمقدورهم نظرياً على الأقل وضع سياسات طويلة المدى تكبل أي سلطة منتخبة، إلا أنهم أيضاً لا يبذلون الجهد المطلوب على الأقل لوقف التدهور الاقتصادي .

ومن المهم هنا الإشارة إلى أن التحليل المنصف لا يمكن أن يحمل الحكم الانتقالي ولا بالضرورة الانتفاضة الشعبية الرائعة مسؤولية هذا التدهور، بقدر ما يخلص إلى أنه نتيجة طبيعية لانهيار تحسن هش غير أصيل (وفي الأغلب مفبرك) أضر بالاقتصاد المصري في السنوات القليلة السابقة على الانتفاضة . لكن المشكلة الحقيقية أن الحكومة الانتقالية التي تحاول جعل الاقتصاد أولوية تعتمد ذات النهج لنظام مبارك وبكل أخطائه الكارثية مع محاولة تجميل بقرارات تتعلق بالبعد الاجتماعي تزيد في الواقع من عوامل الكارثة في نهج النظام المنهار . كما أن كل التعهدات من دول الخليج بمساعدة مصر مالياً أثبتت أنها مجرد وعود وليس هناك أي دعم حقيقي ذي قيمة حتى الآن .

فأسس السياسة النقدية كما هي، ومحاولات البنك المركزي المصري في الأسابيع الأخيرة لوقف تدهور سعر صرف الجنيه المصري أمام الدولار لا تجدي نفعاً كبيراً . وإن تمكن من خلال بعض القيود على النظام المصرفي من الحفاظ على قيمة الجنيه في نطاق يقارب 6 جنيهات مصرية للدولار الواحد، فإن ذلك لا يمكن أن يستمر طويلاً . وذكر لي أحد العاملين في بنك أجنبي في مصر كيف أنهم يعانون من تلك القيود النقدية وأن صبرهم لا يمكن أن يطول وهم يدركون أن جدوى تلك الإجراءات قصير المدى جداً . كما أن أغلب الشركات التي تتعامل مع الخارج ليست لديها سيولة تقريباً وهي تحاول جاهدة الوفاء بالتزاماتها حتى لا تخسر ثقة الخارج بالوضع في مصر .

والأرقام الأخيرة لأرباح الشركات في مصر في نصف العام تشير إلى تراجع في المتوسط ما بين 15 و35 في المئة . ولم يعد الأمر قاصراً على خسارة أكثر من نصف عائدات السياحة، بل إن الكارثة الأكبر هي في تراجع أو توقف نمو قطاعات معينة كانت في السنوات الست الأخيرة المكون الأساسي لنمو الاقتصاد المصري وأغلبها في قطاع الخدمات . وأعني هنا تحديداً ما تعانيه شركات الاتصالات والخدمات المالية وإنتاج السلع الترفيهية والقطاع العقاري الذي يشهد ركوداً تاماً بالفعل .

ولا يمكن تصور أن اتباع نهج النظام السابق، كما تفعل الحكومة الانتقالية الحالية، ومحاولة تعويض تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر بحزم مساعدات من دول الخليج، سيؤدي إلى تحسن ولا حتى وقف التدهور في أمد أكثر من 3 أشهر على أقصى تقدير . وإذا كان البعض يرى أن إجراء انتخابات عامة بسرعة ونقل السلطة لكيان مدني منتخب يتمتع بالشرعية يمكن أن يعيد الثقة بالاقتصاد ويسهل عملية انطلاق جديدة، فإن المشكلة الأساسية في تلك الرؤية أنها تعتمد أساساً على استعادة عافية الخط الاقتصادي السابق لنظام مبارك .

يحتاج الاقتصاد المصري إلى ثورة حقيقية لا يمكنها أن تنتظر الانتخابات وجدل النخبة السياسية، وهي في أغلبها من مخلفات نظام مبارك بشكل أو بآخر . وربما يكون ذلك أمراً صادماً، وقد تشوبه مسحة ديكتاتورية، لكنها ضرورة إذا كان لمصر أن تجد قاعدة لأي تغيير حقيقي نحو الأفضل . وبغض النظر عن التوجه: مزيداً من اقتصاد السوق أو عودة للتخطيط المركزي، المهم هو التصرف الحاسم والسريع إذ لا يمكن أن يستمر الوضع الاقتصادي الحالي دون تبعات كارثية قد تحتاج أجيالاً لإصلاحها .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"