الحلم الاقتصادي العربي

04:27 صباحا
قراءة 4 دقائق

تركز الكتابات والتحليلات التي تتناول التطورات الحالية في المنطقة على الآثار السريعة والمباشرة للتغييرات التي جرت في تونس ومصر وليبيا واليمن وغيرها . ولأن أسابيع الاحتجاجات والاضرابات تعطل الاقتصاد وتؤدي إلى خسائر مباشرة لكافة قطاعاته تقريباً، فإن الآثار الفورية وعلى المدى القصير تبدو سلبية . وفي خضم الاهتمام بالمشكلات الآنية وتبعاتها وملاحقة تفاصيل التغييرات ينقسم المراقبون بشأن مستقبل المنطقة على المديين المتوسط والبعيد . لذا يتعين محاولة وضع ما يجري في العالم العربي في سياق أوسع لا يمكن فصله عنه فقد يسهم ذلك في تصور مستقبل تلك التغيرات ليس فقط بالنسبة للإقليم ولكن ربما للعالم أجمع .

وأهمية ذلك أن الجانب الاقتصادي أخذ حيزاً واسعاً من تفسير تلك الانتفاضات الشعبية العربية، بل إن بعض التحليلات المتعسفة نظرت إليها في البداية على أنها احتجاجات اقتصادية فحسب . لكن ما جرى في تونس ومصر أثبت أن تلك الثورات أعمق بكثير من مجرد احتجاجات على تردي أوضاع اقتصادية ومطالب بالحد من الفساد، وأنها فورات شعبية للتغيير الكامل الذي يمكن أن يسفر عنه وأن مر بمراحل تعثر وأضرار مؤقتة نمط حكم جديد في العالم وإعادة صياغة لأسس اقتصادية جديدة . ويكاد يقترب ما يجري في العالم العربي مما وصف قبل أكثر من قرن بأنه الحلم الأمريكي في مجتمع جديد واعد خرج من حرب أهلية واسعة وأرسى أسس اقتصاد جديد مثل نقلة في تطور الرأسمالية واعاد صياغة أسس حكم على أسس ليبرالية تتفق مع النموذج الاقتصادي الجديد .

والواضح أن ذلك النموذج الأمريكي، بل والرأسمالية عموماً، أصيب بضربة قوية من انهيار النظام المالي العالمي قبل ثلاثة أعوام . وجاء التردي سريعاً بعد الوصول إلى قمة منحنى تمثلت في انهيار الكتلة الاشتراكية قبل نحو عقدين وتحول عدد كبير من دول أوروبا الشرقية والوسطى إلى النمط الغربي واعتماد كثير من الاقتصادات الصاعدة في أسيا وأمريكا اللاتينية وإفريقيا النموذج الرأسمالي لتحقيق النمو . ويبدو أن العولمة الاقتصادية والمالية التي تسارعت وتيرتها مع كل تلك التحولات كانت قوة دفع في الوصول بسرعة إلى قمة منحنى الرأسمالية وبداية انهيار . ولا يعني ذلك أن الرأسمالية انتهت (على طريقة نهاية التاريخ كما قال بعض الأمريكيين في نهاية القرن الماضي) وإنما استنفدت كل إمكانات تجديدها لنفسها وأصبحت هناك ضرورة لتطوير نمط جديد .

من هنا تأتي أهمية ما يجري في العالم العربي من تغيير، خاصة وأن انتفاض الشعوب لم يكن يستهدف الانتقال من سلطة التخطيط المركزي والاقتصاد الموجه أو الاشتراكي إلى النمط الرأسمالي واقتصاد السوق كما حدث في أوروبا الشرقية . على العكس، فأغلب الدول العربية تعتمد اقتصاد السوق وقطعت أشواطاً على طريق العولمة المالية . وليس الحديث عن إمكانية أن تؤسس التغيرات في الدول العربية لما يمكن أن يكون الحلم العربي من قبيل التفكير بالتمني، بل له مبررات منطقية يمكن المرور سريعاً .

أولاً، كانت المنطقة العربية من أكثر مناطق العالم تأثراً بالعولمة الاقتصادية والمالية وحتى السياسية من دون أن تشعر شعوبها بأي فوائد تذكر رغم أرقام الاقتصاد الكلي الإيجابية في أغلب دولها . وثانياً أن المنطقة شهدت نماذج مبهرة للمرحلة الأخيرة من الرأسمالية مثلما حدث في تجربة دبي المميزة . وإن كان من الصعب على أي من دول المنطقة تكرار التجربة، ولو في طور جديد، إلا أن دروسها المستفادة ستلهم النخب الجديدة في الدول العربية الصاعدة لتطوير نمط تنمية جديد يتجاوز كل ما هو تقليدي . وثالثاً أن المنطقة كانت بحق معمل اختبار غير مسبوق للمزج بين الليبرالية الاقتصادية والمحافظية السياسية بشكل يعد بمثابة إنذار مبكر لصعود اليمين السياسي في أغلب الدول الرأسمالية في الآونة الأخيرة .

لكن الملمح الأهم هو أن الطبيعة الشعبوية لعملية التغيير في العالم العربي، رغم ما قد يبدو في الظاهر من عدم وجود أسس نظرية لها، يمكن أن تمثل بحث منصة انطلاق لنظام اقتصادي جديد ضمن نمط سياسي/ اقتصادي/ اجتماعي يتجاوز الرأسمالية المتعولمة . وهذا في تصوري هو الحلم العربي الذي ربما يبهر العالم ويتخذه مثالاً يحتذى . فليست مفارقة بسيطة ومثيرة إعلامياً فحسب أن تجد احتجاجات عمالية في ويسكنسن بأمريكا وفي بلدة بكندا ضد ممارسات شركة برازيلية تتواطأ معها الحكومة الكندية تستلهم ما جرى في مصر . ليست المسألة بسبب التضخيم الإعلامي ولا التأثر السطحي التافه بإعلانات التلفزيون، إنما هو نموذج لتأثير الخروج عن الأنماط التقليدية .

صحيح أن هناك فترة ليست بالقصيرة قبل تبلور نمط جديد يتجاوز الأسس الاقتصادية الراسخة للرأسمالية وهيمنة الشركات الكبرى وسطوة رأس المال الساخن، لكن شرارة البدء انطلقت من المنطقة العربية ولا أظنها ستتوقف . وسنبدأ نقرأ ونسمع تباعاً تحليلات وتنظيرات جديدة تماماً عن نظام عالمي جديد وأسس اقتصادية مختلفة وأنماط تنمية مبدعة . وأتصور أن منظري الرأسمالية المحافظة سيكونون السباقين في هذا المضمار في إطار محاولات الرأسمالية تجديد نفسها كما تفعل باستمرار . ولنراقب من الآن وول ستريت جورنال الأمريكية وفاينانشيال تايمز البريطانية والايكونوميست وغيرها . وأن كان علينا أيضاً أن نبدأ الاسهام في التفكير حتى يظل الحلم الاقتصادي الجديد عربياً .

خبير اقتصادي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"