بانتظار الأسوأ مالياً

04:39 صباحا
قراءة 4 دقائق

لم يكن كثيرون ينتظرون صدور التقرير نصف السنوي لصندوق النقد الدولي عن آفاق الاقتصاد العالمي للتأكد من أن العالم يواجه أزمة اقتصادية جديدة، ربما تكون هذه المرة أسوأ من الأزمة المالية قبل أربع سنوات .

فإذا كانت الاقتصادات الرئيسية في العالم تمكنت في 2008 من التدخل الحكومي للحد من الانهيارات الناجمة عن الأزمة المالية العالمية، ليدخل العالم في ركود قابل للتعافي فإن تلك الاقتصادات الآن أكثر هشاشة من أن تتحمل أزمة جديدة ناهيك عن التدخل للحد من آثارها . أضف إلى ذلك أن العالم يبدو كأنه قد استنفد أدواته لإصلاح الخلل في النظام المالي العالمي ومن ثم لم تعد أمامه خيارات كثيرة للتعامل مع أزمة جديدة . والنتيجة المتوقعة إذاً هي ركود أسوأ ربما يقود إلى كساد لفترة طويلة .

تقديرات صندوق النقد الدولي في تقريره الأخير، التي تتسق مع تقديرات مؤسسات وهيئات أخرى، تستند إلى احتمالات اتساع تأثيرات أزمة الديون السيادية في دول اليورو وتردي وضع الاقتصاد الأمريكي لتتوقع تراجعاً في النمو الاقتصادي العالمي عن تقديرات سابقة .

وبتحفظ شديد، تخلص تلك التقديرات إلى أن التعافي الاقتصادي العالمي متعثر بما ينذر بركود ثان مع تركيز على مؤشر اساسي للوضع الاقتصادي العالمي يتمثل في أداء الأسواق المالية وتوجهات الاستثمار .

وأظن أن تلك مشكلة هيكلية اساسية حتى لدى الخبراء والمحللين الذين يبنون السيناريوهات على أساس حركة أسواق الأسهم والسندات وخطط مديري صناديق الاستثمار . تلك المشكلة التي تبقي على كل جذور الأزمة في حالة فاعلية مستمرة تأخذ العالم من سيئ إلى أسوأ طالما كانت كل السياسات والخطط والإجراءات تستهدف حل مشكلات القطاع المالي بشكل ترقيعي عله يتوقف عن تهديد فرص النمو وبالتالي الانتعاش الاقتصادي .

فالتوجه العام الآن، من قبل المؤسسات الدولية والولايات المتحدة، هو الضغط أكثر على الحكومات لحل مشكلات تراكم الديون السيادية خشية أن تهوي ببنوك تجارية كبرى ويصبح النظام المصرفي العالمي مفلساً تقنياً . وهكذا تستهدف كل السياسات والمفاوضات الآن تقديم قروض جديدة لمن لا يستطيع الوفاء بالتزامات القروض المتراكمة عليه، دولاً ومؤسسات، كي لا تنكشف البنوك ومؤسسات الإقراض على ديون معدومة أو رديئة هائلة وينهار النظام المالي . ومن دون تقعر أو إغراق في مصطلحات وهمية للتحليل لا يعني ذلك أكثر من تدوير الهواء الساخن داخل فقاعة جديدة لتنتفخ أكثر ويكون انفجارها حارقاً ومدمراً أكثر من سابقتها . فبدلاً من تسريب الهواء الساخن (الديون) سيتم تضخيم ما تبقى منه من الفقاعة الأولى التي حال التدخل الحكومي دون القضاء عليها تماماً .

لماذا لا يشير أحد الآن إلى أن كثيراً من البنوك الكبرى في العالم لم تكشف تماماً عن مشكلاتها إبان أزمة 2007/،2008 ويركز الجميع فقط على مشكلة ديون الميزانيات الحكومية والعجز فيها . وإذا كانت الحكومات وسلطات الرقابة المصرفية في الاقتصادات الرأسمالية الرئيسية قبلت ضمناً بعملية طبخ الدفاتر من قبل بنوك ومؤسسات كبرى خشية انهيار اقتصادي شامل وعلى اعتبار أن تلك كيانات أكبر من أن تنهار، فعليها الآن أن تتحمل تبعات ذلك . وأول تصرف منطقي في هذه الحالة - إذا كانت هناك إرادة حقيقية لتخليص النظام المالي والاقتصادي العالمي من علله الأساسية - هو التخلي تماماً عن منطق الحيلولة دون الانهيار . فالقاعدة البسيطة في اقتصاد السوق الحر والمفتوح هي أن يصلح النظام نفسه بنفسه دون تدخل أكثر من التنظيم . ويتعين أن يسمح التنظيم بإفلاس من يغامر بشدة كي يتخلص النظام من الأضرار باستمرار .

صحيح أن حجة مرور العالم ونظامه المالي والاقتصادي بظروف استثنائية في الأزمة الأخيرة استخدمت مبرراً للإبقاء على العلل وتجاوز قواعد النظام البسيطة لدرء خطر الانهيار الكامل . لكن استمرار العلل وتعاظمها نتيجة هذا التدخل - على ما يبدو - عنى أن تلك السياسة لم تكن صائبة، وربما كان من الأفضل السماح بهزات أكبر حتى مع خطر الانهيار الكامل بدلاً من الاستمرار في علل ستؤدي أيضاً إلى انهيار، لكن في وقت لاحق . وربما لم تفت الفرصة تماماً حتى الآن، وقد يكون السماح بإفلاس دول كاليونان وإيرلندا وحتى إسبانيا وإيطاليا ومؤسسات كبرى كسيتي غروب ويو بي إس وحتى إتش إس بي سي حفاظاً على النظام أكثر منه تركه لينهار .

لا شك أن الاقتصاديين الرسميين وشبه الرسميين، والمرتبطين بالبنوك الاستثمارية والصناديق، سيجادلون بأنه حتى لو دخل العالم في كساد لسنوات فمن الممكن الخروج منه، لكن الانهيار سيعني إعادة البناء من جديد بما لا يطيقه أحد . وهناك مثال جاهز هو مثال اليابان التي عاشت أكثر من عقد من الكساد بعد أزمة مالية وركود . إنما القياس هنا غير صحيح تماماً، فاليابان دخلت في كساد وتمكنت من الخروج منه لأن بقية العالم كان يمر بدورات اقتصادية عادية وبالتالي ساعدها تعاملها مع العالم على تحمل الكساد والخروج منه نسبياً . أما إذا أصاب الكساد العالم كله (وإن كان المتحفظون يتحدثون فقط عن أمريكا وأوروبا) فكيف له أن يخرج منه؟ ربما الرهان على ما تسمى الاقتصادات الصاعدة في الصين والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا وروسيا، وتلك كارثة أخرى . فتلك الاقتصادات الصاعدة صعدت بالتعامل مع عالم يفور بحمى النشاط المالي . وفي حالة الركود والكساد ستكون انتكاسة تلك الاقتصادات أعمق وأخطر وربما جعلت الانهيار أكثر ألماً وضرراً .

قبل أن نشهد في غضون عام أزمة جديدة أسوأ من سابقتها تدخل العالم في كساد ممتد، مازالت هناك فرصة للتصرف الجريء والحاسم . لكن ذلك يحتاج إلى إرادة وقيادة استثنائيتين للأسف لا تتوافران الآن في العالم لا في الاقتصاد ولا في السياسة .

* خبير اقتصادي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"