سياسة صحيحة لاقتصاد صحي

04:27 صباحا
قراءة 5 دقائق

من الطبيعي أن تنعكس صحة الاقتصاد وتقلباته على سعر صرف النقد، وهنالك دلائل كثيرة عليه في أنظمة السعر الحر . بالرغم من أن التغيرات في أسعار صرف العملات الأساسية حاصلة، إلا أن تقلباتها تبقى محدودة ليس بسبب تدخلات المصارف المركزية فقط وإنما لأن الاقتصادات كلها تعبة بالدرجة نفسها تقريباً . ليس هنالك دلائل واضحة بشأن زيادة المخاطر المالية بشكل هيكلي ودائم، وإنما تتقلب الاقتصادات تبعاً للدورات الطبيعية وأن تكن حدتها تختلف من حين لآخر . ليس هنالك نظام جديد للدورات الاقتصادية، وإنما هنالك مؤشرات سلبية تلقي بثقلها على النتائج منها عجز الموازنات والدين العام والنمو والبطالة . عبر التاريخ، تحول العديد من المؤشرات من سلبي إلى إيجابي، وبالتالي أن التشاؤم في الاقتصاد يبقى في غير محله . من المؤشرات الأساسية التي تدل على صحة أو مرض أي اقتصاد هو تنامي نسبة الدين العام من الناتج التي تشير عموماً إلى وجود فساد وهدر وسوء إدارة وفلتان مالي خطير .

تنعكس صحة الاقتصاد على النقد وهذا ما حصل في آسيا في سنتي 1997 و،1998 حيث انخفضت العملات وتدنى النمو وأفلست العديد من المصارف، كما ارتفعت نسبة البطالة . حصلت أزمات مشابهة في تركيا والبرازيل والأرجنتين ،حيث انخفض سعر صرف البيزو من دولار إلى ربعه خلال سنة ،2002 وارتفعت نسبة البطالة إلى أعلى من 20% . هنالك دائماً قنوات لانتقال الأزمات من دول إلى أخرى عبر التجارة كما رؤوس الأموال . في الولايات المتحدة مثلاً تحولت الموازنات من فائضة إلى سلبية خلال سنوات قليلة . في سنة ،1999 كانت الموازنة فائضة بنسبة 4،1% من الناتج، وكذلك في السنتين التاليتين أي فائض 4،2% في سنة ،2000 وفائض 2،1% في 2001 . لم تتحول الموازنات الأمريكية إلى سلبية، إلا بدءاً من سنة 2002 بسبب تغير السياسات العامة من الناحيتين العسكرية والمالية . ليس من الضروري أن تبقى الأمور على ما هي عليه، إذ إن العودة إلى الظروف الإيجابية تبقى دائما ممكنة . من ناحية أخرى، تدنت مثلاً نسبة الدين العام من الناتج في دول عدة بفضل تحقيق العوامل التالية منها السلبي كما الايجابي .

أولاً: النمو، حيث إن زيادة الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة سنوية أعلى من نسبة زيادة الدين العام يخفض ثقل الدين في الاقتصاد، وهذا ما حصل في لبنان سابقاً، ويمكن أن يتحقق مجدداً إذا عدنا إلى فترات النمو القوي المتواصل . يأتي النمو من الاستثمارات، وهنا تكمن أهمية السياسات العامة المشجعة عليه والمطمئنة للمستثمر .

ثانياً: سياسات التقشف بحيث ينخفض عجز الموازنات وبالتالي نسبة زيادة الدين العام . سياسات التقشف موجعة جداً، وهذا ما يشعر به اليونانيون والأسبان والإيطاليون وغيرهم الذين يدفعون اليوم ثمن الانفلاش المالي للحكومات السابقة . على الحكومات المعتمدة لبرامج تقشفية أن تختار بين الانفاق الذي يولد نمواً والتقشف الذي يسهم في ضبط المال العام وتحسين وضع الاقتصاد على المدى البعيد . في فرنسا مثلاً وخلال الحملات الانتخابية الرئاسية، تعهد الرئيس ساركوزي بتخفيض نسبة عجز الموازنة من الناتج من 7،5% في سنة 2011 إلى 6،4% هذه السنة وإلى 3% وثم 2% في السنتين اللاحقتين . هل سيعطيه الفرنسيون فرصة تحقيق برنامجه؟ أم سيقوم المرشح الاشتراكي هولاند بهذه المهمة وأن تكن بأشكال ومحتويات مختلفة؟

ثالثاً: الإفلاس وإعادة هيكلة المؤسسات العامة كما بعض الشركات الخاصة الكبيرة بحيث تعلن الحكومات إفلاسها، وهذا ما حصل مراراً في دول أمريكا اللاتينية وما تحاول أوروبا تجنبه في الحالة اليونانية وغيرها . إفلاس الدول مختلف عن إفلاس الشركات، إذ في الأخيرة تتم تصفية الأصول وتسديد الأموال للدائنين وتوزيع ما تبقى على أصحاب الأسهم . في الدول، يؤثر الإفلاس على عاملين مهمين أي سقوط النقد في الجانب المالي وارتفاع البطالة في الجانب الحقيقي أي أوجاع كبيرة من دون الوصول طبعاً إلى التصفية . في الولايات المتحدة، تدخلت الدولة مراراً لإنقاذ شركات من الإفلاس ليس فقط مصارف نتيجة أزمة 2008 وإنما شركات سيارات وتأمين وغيرها للحفاظ على ركائز الاقتصاد وحيويته .

رابعاً: ارتفاع قوي في مؤشر التضخم يأكل من القيمة الحقيقية للدين العام وتصبح نسبته من الناتج الحقيقي قليلة مع الوقت . ليس التضخم حلاً لمشكلة الدين العام وإنما تعتمده بعض الدول في غياب الحلول الأخرى التي قد تكون موجعة كثيراً ولا مجال للشعوب تحملها . مرت في هذه التجربات معظم دول أمريكا الجنوبية منها البرازيل في العهود القديمة أي طبعاً قبل وصول الرئيس لولا دي سيلفا إلى الحكم . هنالك دور أساسي للدولة في تحقيق التضخم عبر توجيه الإقراض إلى مؤسسات عامة كالضمان الاجتماعي والصحي لتقوم بأعمال إضافية هدفها التخفيف من حدة الأزمة . هنالك دول تثبت سعر الفائدة على مستويات منخفضة كي تتدنى تكلفة خدمة الدين العام ويرتفع الاقتراض الخاص للاستثمار والاستهلاك وبالتالي تؤجل الأزمة ولا تلغيها . تدخل الدولة بشكل مزمن في الأسواق المالية والنقدية يؤدي إلى تحقيق نتائج سيئة أو أقلها غير فاضلة لا تصب في المصلحة العامة .

لا يمكن تثبيت صحة الاقتصاد على المدى الطويل الا عبر سياسات منطقية لا تمنع التقلبات التي يجب أن تبقى ضمن حدود مقبولة، أي لا تلغي الرغبة في الاستثمار . فالاستثمار يهدف إلى الربح ولن تكون هنالك أرباح في غياب التقلبات أو المخاطر . للمقارنة، استثمار مئة دولار أمريكي في سنة 1965 يعطي اليوم 1336 دولاراً إذا وظف في سندات الخزينة الأمريكية و4455 دولاراً لو استثمر في الذهب و6072 دولاراً لو استثمر في الأسواق المالية عبر مؤشر SP500 . تبقى الاستثمارات في الأدوات الخطرة مربحة على المدى البعيد حتى مع وجود أزمات مرحلية ودورية كالتي نعيشها كل 10 سنوات تقريباً . من هذه السياسات الطويلة الأمد:

أولاً: تقوية المؤسسات التي تهدف إليها كل الدول المسؤولة . من دون مؤسسات فاعلة، لن تكون هنالك سياسات اقتصادية منتجة . فالمؤسسات لا تقتصر فقط على النظام السياسي وإنما تشمل القوانين التي تحمي الحريات والملكية الفكرية والحقوق الاجتماعية . لا يمكن تغيير المؤسسات بسهولة أو تعديل دورها، إذ يجب أن تكون هنالك استمرارية مما يعزز الثقة والاطمئنان بالنسبة للمستقبل . لا مانع من تعديلات مع الوقت عبر الديمقراطية لزيادة الشفافية وتفعيل الدور المتغير دائماً مع تطور الحياة .

ثانياً: المؤسسات العامة الفاعلة التي تخفف من عمق وحجم الفساد . هنالك فارق كبير بين المؤسسات الجيدة وعملها، إذ نجد أحياناً مؤسسات ممتازة في القانون لا تؤدي الدور المطلوب اجتماعياً وصحياً وتربوياً وغيرها . وجود قيادات متعلمة وواعية على رأس المؤسسات يقوي حظوظها من ناحية النتائج والدور العام المطلوب منها . إذا استطاعت الدول الصناعية إنشاء مؤسسات فاعلة، فهل في قدرة الدول الناشئة والنامية القيام بالمهمة نفسها وبشكل فاعل لمصلحة شعوبها؟ هنالك تشاؤم دولي في هذا الخصوص بسبب التجارب السابقة الفاشلة، لكن وعي الشعوب يزداد مع الوقت ولابد من اعطاء الفرص والأمل أكثر بالمستقبل .

ثالثاً: المؤسسات الجيدة هي التي تختار الإنفاق المناسب والمجدي . في الولايات المتحدة مثلاً، تقوم الدولة المركزية كما الولايات الفردية بالإنفاق السخي على السجون بدل الاستثمار في التربية . في ولاية كاليفورنيا مثلاً، ومنذ سنة 1980 بنيت جامعة واحدة و21 سجناً . يكلف الطالب في كاليفورنيا 8667 دولاراً في السنة، مقارنة ب45 ألف دولار للسجين . فهل هذا مقبول؟ لا شك أن هنالك مصالح مادية كبيرة وراء بناء وإدارة السجون غير متوافرة في التعليم، وهذا يؤدي إلى زيادة حجم المشكلات الاجتماعية إضافة إلى سوء توزع الأموال العامة .

خبير اقتصادي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"