عدوى الانكماش في الاتجاه المعاكس عبر الأطلنطي

04:53 صباحا
قراءة 4 دقائق

لم يكد يمضي أسبوع على عودته من أوروبا بعد مشاركته في قمة مجموعة العشرين بجنوب فرنسا التي طغت عليها أزمة الديون السيادية الأوروبية حتى انطلق الرئيس الأمريكي باراك أوباما في جولة آسيوية استهلها باستضافة قمة التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ (ابيك) . وخلال جولته في أستراليا ودول آسيوية بعد القمة سعى الرئيس الأمريكي لتعزيز علاقات بلاده التجارية والاقتصادية مع دول المحيط الهادئ وآسيا، فيما يبدو تعويضاً عن تراجع مع أوروبا عبر الأطلنطي بسبب أزمة الديون الأوروبية . وشهدت قمة (ابيك) انضمام اليابان إلى اتفاقية الشراكة لدول الهادئ، ما أعطى دفعة لجهود أوباما لاستبدال المحيط الهادئ بالمحيط الأطلنطي المضطرب اقتصادياً .

فقبل ثلاث سنوات انتقلت عدوى الأزمة المالية من الولايات المتحدة إلى أوروبا بعد انهيار القطاع العقاري في الولايات المتحدة وانكشاف مؤسسات مالية كبرى على ديون رهن عقاري رديئة بالمليارات، فترنحت صناديق استثمار وصناديق معاشات تقاعد أوروبية كبيرة كانت تورطت في شراء مشتقات استثمارية عبارة عن توريق لتلك الديون العقارية

الأمريكية المعدومة . والآن يبدو أن فيروس الانكماش الائتماني ينتقل في الاتجاه المعاكس عبر المحيط الأطلنطي من أوروبا إلى أمريكا .

في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وفي معرض المشاركة الأمريكية في البحث عن حلول لأزمة الديون السيادية في أوروبا لتفادي انكماش ائتماني عالمي سيؤثر أولاً وبقدر أكبر في الشريك الأكبر لأوروبا -خاصة في القطاع المالي- وهي أمريكا، قلل وزير الخزانة الأمريكي تيموثي غيثنر من خطر الأزمة على واشنطن . وقال غيثنر وقتها: إن الانكشاف المباشر للنظام المالي الأمريكي على الدول الأكثر تعرضاً للمشكلات في أوروبا متواضع . كان وزير الخزانة الأمريكي يقصد بالطبع انكشاف القطاع المالي الأمريكي تحديداً على الديون السيادية في كل من اليونان والبرتغال وإيطاليا وإسبانيا وإيرلندا، وهو في حدود 147 مليار دولار -لا تشكل أكثر من 6 في المئة من حجم الاستحقاقات الخارجية على تلك الدول في شكل أذون خزانة حكومية . وتلك نسبة ضئيلة مقارنة مع انكشاف البنوك والمؤسسات المالية الأوروبية على ديون تلك الدول من منطقة اليورو بنسبة 89 في المئة من إجمالي المستحق خارجياً من تلك الديون .

إلا أن حجم انكشاف المؤسسات المالية الأمريكية بشكل غير مباشر على الديون السيادية في دول منطقة اليورو المتضررة بشدة أكبر بكثير، وذلك إذا أخذنا في الاعتبار ما تملكه من مشتقات استثمار مالي وضمانات توريق ويصل إجمالاً إلى 493 مليار دولار . وإذا أضيف حجم الانكشاف غير المباشر يصبح القطاع المالي الأمريكي مكشوفاً بنسبة 18 في المئة من إجمالي الانكشاف الأجنبي لدول منطقة اليورو المتضررة في أزمة الديون . ومرة أخرى قد تبدو تلك نسة ليست بالكبيرة إذا قيست بإجمالي أصول البنوك الأمريكية، إذ لا تتعدى 5 في المئة من تلك الأصول . لكن لا بد هنا من الأخذ في الاعتبار الإقراض من القطاع المالي الأمريكي للبنوك الأوروبية الأكثر تورطاً في الديون السيادية للدول المتعثرة، وتحديداً البنوك الفرنسية والألمانية التي تملك القدر الأكبر من المستحقات الخارجية من ديون تلك الدول . ويبلغ إجمالي الإقراض الأمريكي للبنوك الألمانية والفرنسية نحو 2 .1 تريليون دولار . وشطب ديون ومستحقات بهذه النسبة كفيل بانهيار مؤسسات إقراض، خاصة مع التوزيع غير المتساوي لتلك المستحقات فيمكن للبنوك والصناديق التي تملك قدراً كبيراً من ديون دول اليورو المتعثرة أن تنهار كما حدث لمؤسسات مالية إبان أزمة قروض الرهن العقاري الرديئة .

وتعد صناديق سوق المال الأمريكية الأكثر عرضة لمخاطر تبعات أزمة الديون الأوروبية، فحسب إحصاءات مؤسسة فيتش للتصنيف الائتماني يصل حجم القروض قصيرة الأجل المستحقة لأكبر عشرة صناديق أمريكية من هذا النوع على البنوك الأوروبية 285 مليار دولار بنهاية أغسطس/ آب . ويمثل هذا المبلغ نسبة 42 في المئة من إجمالي أصول تلك الصناديق .

وأهمية انكشاف صناديق سوق المال أنها أكبر مقرض بالدولار للبنوك غير الأمريكية، ولنتذكر أنه في سبتمبر/ أيلول 2008 كاد انهيار صندوق الاحتياطي الأولي (ريزرف برايمري فند) بمبلغ 62 مليار دولار يشعل انهياراً متسلسلاً في صناديق سوق المال ويؤدي إلى سوق الإقراض بين البنوك وأسواق العملات لولا أن تدخلت الحكومة الأمريكية وأنقذت الصندوق . وبدأت صناديق سوق المال بالفعل تقليل إقراضها قصير الأجل للبنوك الأوروبية، إذ خفضت الإقراض لتلك البنوك بنسبة 14 في المئة من أغسطس/ آب إلى سبتمبر/ أيلول، وظهر أثر ذلك بسرعة في الانكماش في الإقراض بين البنوك في أوروبا .

بالطبع لا يتصور أن تحل دول آسيا والمحيط الهادئ، خاصة مع بقاء الصين خارج اتفاقية الشراكة، محل أوروبا كشريك تجاري واقتصادي للولايات المتحدة . لكن الجهود الأمريكية لاستبدال الأطلنطي بالهادئ، إضافة إلى تعزيز الوجود الاقتصادي في إفريقيا أيضاً، ربما يمثل تحوطاً اقتصادياً أمريكياً لانتقال عدوى مشكلات أوروبا إليها . فالمسألة ليست فقط حجم تبادل تجاري أو استثمار مالي عابر للمحيطات، بل إن الولايات المتحدة ذاتها ترقد على أزمة ديون سيادية قابلة للانفجار مع بلوغ الدين العام أكثر من 16 تريليون دولار وبما يتجاوز حجم الناتج القومي .

خبير اقتصادي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"