آخر سلم التنازلات

04:57 صباحا
قراءة 3 دقائق

لو كنت رساماً للكاريكاتير، وطلب إلي رئيس تحرير الصحيفة التي أعمل بها، أن أجسد الوضع الحالي للقضية الفلسطينية، في أعقاب التصريح الذي أدلى به مؤخراً في باريس السيد رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، لرسمت سلماً لحقوق الشعب الفلسطيني، وكتبت على كل درجة من هذا السلم من الأعلى إلى الأسفل الحقوق الأساسية لشعب فلسطين، درجة درجة، ورسمت السيد عباس نازلاً درجات السلم درجة إثر درجة، حتى وصل إلى الدرجة الأخيرة التي لم يعد أمامه بعدها سوى النزول إلى الأرض .

ففي مجال إبداء يأسه حتى من استئناف المفاوضات العقيمة مع إسرائيل التي تنعقد منذ سنوات وتدور في حلقة مفرغة، لا تؤدي إلا إلى مزيد من تدهور الأوضاع السياسية في الأراضي المحتلة في العام ،1967 وتزايد لا يتوقف في بناء المستعمرات الإسرائيلية، وتدهور يبدو بلا حضيض لمستوى المعيشة اليومية للفلسطينيين، في كل من قطاع غزة والضفة الغربية، في مجال إبداء يأسه حتى من مواصلة هذه المفاوضات التعسة، أكد أبو مازن أنه ذاهب إلى الأمم المتحدة، ليطلب من الجمعية العمومية (وليس طبعاً من مجلس الأمن الذي تتسلح فيه إسرائيل بسلاح الفيتو الأمريكي الخالد)، إعلان دولة فلسطين، حتى لو كانت ناقصة العضوية، أي أنها لا تتمتع في الجمعية العامة بأكثر من صفة العضو المراقب فقط .

إننا عند هذا الحد، نجد أنفسنا فعلاً ونحن نتأمل رسم سلم التنازلات المتدرجة عن حقوق شعب فلسطين، وقد وصلنا إلى الدرجة الأخيرة من التنازلات، أو قبل الأخيرة التي لا يبقى معها من حقوق يمكن التنازل عنها، سوى حق الفلسطينيين في العيش حيث هم تحت نير الاحتلال، إلى أن يصل هذا الاحتلال في يوم من الأيام، إذا استمرت حالة الاستسلام والتنازل، إلى شنّ حملة تطهير عرقي جديد، يستكمل فيها طرد ما تبقى من عرب فلسطين، من الضفة الغربية وقطاع غزة استكمالاً لحملة التطهير العرقي الأولى التي تأسست عليها دولة إسرائيل في العام ،1948 والتي لم يؤرخها أحد بأدق تفاصيلها كما أرخها المفكر اليهودي الحر إيلان بابيه الذي فرّ من جحيم الصهيونية الإسرائيلية، ليواصل حياته في بريطانيا .

يمكن رصد تسلسل درجات سلم التنازل عن الحقوق الأساسية لشعب فلسطين منذ الدورة التي قاد فيها الرئيس الراحل ياسر عرفات حملة التغيير الجذري في الميثاق الوطني الفلسطيني، ثم شطب هدف تحرير كامل التراب الفلسطيني .

بعد ذلك تسارعت التنازلات واحداً إثر الآخر، حتى الوصول إلى اتفاقيات أوسلو التي أصر البعض ذات يوم على اعتبارها ذروة المكاسب الوطنية الفلسطينية، أو على الأقل المدخل المؤكد والمضمون للوصول إلى درجة أعلى من الحقوق الأساسية لشعب فلسطين .

اليوم، لم يعد مطلوباً لتقييم نهائي لاتفاقيات أوسلو، العودة إلى مناقشة نصوصها المكتوبة، يكفي النظر إلى نقطة التراجع التي وصلت إليها الأوضاع الفلسطينية، ونقطة اليأس التي وصل إليها رئيس السلطة الفلسطينية، والتي عبر عنها بصراحة يحسد عليها في تصريحه الأخير في العاصمة الفرنسية .

يحسب للزعامة التاريخية لياسر عرفات، أنه عندما وصل في تنازلاته عن بعض الحقوق الأساسية لشعب فلسطين، أدرك بحسه السياسي أنه إذا واصل التنازل درجة أخرى، فإنه سيفقد شعب فلسطين كل حقوقه الأساسية، فكان ما كان من أمر الحصار الأمريكي الإسرائيلي لياسر عرفات في سنواته الأخيرة، حتى وفاته المشبوهة .

ليس السيد محمود عباس مضطراً لتصحيح أوضاع البوصلة السياسية التي يهتدي بها، إلى استذكار كل دروس النضال الفلسطيني منذ مطلع القرن العشرين، وولادة المشروع الصهيوني، يكفيه أن يستذكر فقط الدرس الأخير لياسر عرفات، ليدرك أن التنازل عن حق العودة مثلاً، لن يؤدي إلا إلى فقدان عرب فلسطين حقهم في العيش حتى تحت نير الاحتلال في الضفة وغزة، وأنه إذا لم يدخل قاعة المفاوضات مزوداً بوحدة كاملة لأبناء شعبه، ومسلحاً باستعادة سائر أساليب المقاومة، فإن أحداً لا في قاعة المفاوضات ولا من خارج هذه القاعة سيحسن إليه بشيء من فتات ما تبقى من حقوق لا تذكر لشعب فلسطين .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"