أحفاد سيزيف وحروبهم الأبدية

03:47 صباحا
قراءة 4 دقائق
عاصم عبد الخالق

بلا نتيجة حاسمة أو نهاية محددة يواصل الغرب حربه المفتوحة ضد الإرهاب. لم يحقق نصراً نهائياً قط ولن يحققه أبداً طالما يصر على أن القوة العسكرية وحدها قادرة على هزيمة الإرهاب. ومع ذلك ستتواصل الحرب وسيستمر معها الإرهاب بل سيزداد، وهكذا تكتمل دائرة شيطانية بلا نهاية ولا طائل ولا رحمة.
ليس غريباً أن يكون الغرب بحربه العبثية تلك نتاجاً طبيعياً لحضارة اليونان العظيمة بأساطيرها المسكونة بالحكمة والخرافة معاً. يستنسخ الأحفاد بطريقتهم واحدة من تلك الأساطير الخالدة. يعيدون إنتاج مأساة سيزيف العبثية. قوة هائلة مهدرة يبددونها في حرب بلا رؤية، تماماً كما فعل جدهم الأكبر سيزيف، تنفيذاً لحكم كبير الآلهة، بأن يحمل حجراً ضخماً ويصعد به الجبل وعندما يصل إلى القمة يهوى الحجر إلى السفح ليعود ويحمله إلى أعلى مرة أخرى ليسقط مجدداً. ويظل سيزيف يكرر نفس العملية بلا نهاية في رحلة شقاء أبدي مجنونة.
هل يفعل الأحفاد غير هذا عندما يصرون على شن حروبهم العالمية ضد الإرهاب بنفس التفكير والآليات والوسائل من دون أن يكتب لهم النصر؟ يكررون الحرب تلو الأخرى ويمنون بالفشل مرة بعد الأخرى أيضاً من دون أن يتوقفوا لإعادة التفكير في جدوى وسائلهم. أليس هذا هو الهراء بعينه؟
ظنوا يوماً أنهم قضوا على القاعدة فجاء لهم «داعش». دمروا أفغانستان بعد هجمات 11 سبتمبر واعتقدوا يومها أنه لن تقوم للإرهاب قائمة ثم فجعوا بهجمات أشد رعباً في مدريد ولندن وبيروت وأخيراً باريس. احتفلوا بقتل ابن لادن فظهر أبو مصعب الزرقاوي، وعندما قضوا عليه كانوا على موعد مع من هو أشد وأخطر: أبو بكر البغدادي الذي يلقب نفسه بخليفة المسلمين بعد أن أعلن الخلافة في العراق وسوريا وربما يقيمها على أنقاض دول عربية أخرى ينوي الغرب تدميرها في المستقبل.
رغم هذا الإخفاق كله لم يستوعب الغرب أنه لا يمكن هزيمة الإرهاب بالطائرات والصواريخ والبوارج الحربية. لا يعترفون بأن الإرهاب يولد من رحم الظلم والفساد والتهميش والديكتاتورية والإهانات القومية والمعايير المزدوجة التي يتعاملون بها مع غيرهم. وإلى أن يستوعب الغرب هذا الدرس المهم أو يعترف به لن يحصد إلا الهشيم، وسيستمر سقوط الضحايا من الجانبين.
كل الشواهد تشي بذلك في ظل الرفض الدولي لمعالجة أسباب الإرهاب وجذوره السياسية والاجتماعية والثقافية بكل أبعادها وعمقها التاريخي.
عندما وقعت هجمات 11 سبتمبر 2001 في واشنطن ونيويورك أعلن بوش الحرب العالمية على الإرهاب وفيها قتلت أمريكا وحلفاؤها من الأبرياء أضعاف من قتلوا من الإرهابيين. ضحايا القاعدة لم يتجاوز عددهم ثلاثة آلاف قتيل في واشنطن ونيويورك ولكن ضحايا حرب بوش كانوا بالملايين من القتلى والمصابين والمشردين توزعوا في أنحاء المعمورة من أفغانستان وباكستان مروراً بالعراق وصولاً إلى الصومال واليمن. إثر الهجوم الأخير على عاصمة النور وحاضرة الغرب المشرقة قالت فرنسا إنها في حرب شاملة مع الإرهاب وهي النسخة الباريسية الرشيقة لعبارة بوش الغليظة الفجة بعد 11 سبتمبر «من ليس معنا فهو مع الإرهابيين».
لا نسعى لتبرير الإرهاب أو التقليل من وضاعة الجرائم البشعة التي يرتكبها الإرهابيون ضد المدنيين وضد الإنسانية كلها، ولكن ندعو لتفهم الظاهرة ومعرفة أسبابها ودوافعها والتعامل الواقعي معها ومن ثم استئصال جذورها. أكثر ما يجب أن يقلق الغرب هو أن الإرهابيين نجحوا في استمالة شباب من داخل المجتمعات الغربية نفسها سواء من الأوروبيين أو من أبناء الجيل الثاني من المهاجرين العرب والمسلمين، أي هؤلاء الذين ولدوا وعاشوا وتعلموا في الغرب، ويفترض أنهم تشربوا قيمه وثقافته وتنعموا بحياة مستقرة مرفهة أفضل كثيراً مما كابده آباؤهم.
العقلاء وهم كثر لهم اجتهاداتهم التي تفسر هذه الظاهرة وتشرح كيفية معالجتها. يتحدثون عن إحساس مرير بالظلم الاقتصادي والتهميش الاجتماعي يعتصر نفوس هؤلاء الشباب. ورغم الديمقراطية والقوانين التي تكفل المساواة بين الجميع على أساس المواطنة من دون غيرها، يبقى المجتمع الغربي قاسياً وقادراً دائماً على مراوغة القانون وفرض ما يريد من تمييز على الأقليات.
ومن يعاني لا يجد أمامه سبيلاً لكسر هذه الحلقة المؤلمة والمهينة سوى الانعزال أو التمرد بأي صورة حتى لو كانت الانتقام من المجتمع، أو التطوع في صفوف «داعش» متصوراً أنه بذلك يحقق ذاته ويستعيد هويته الضائعة. هذا يعني أنها حرب أفكار في المقام الأول أو يجب أن تكون كذلك. ولهذا السبب لا جدوى من استخدام السلاح ولا قيمة له وحده، فلا يمكن قتل الفكرة بالرصاص.
وإلى أن يجد الغرب في نفسه الشجاعة للاعتراف بأخطائه والإقرار بعبثية اعتماده على الوسائل العسكرية فقط سيظل العالم على موعد مع جولة بعد أخرى من الحرب على الإرهاب. ومن الآن علينا أن نستعد لجولة ما بعد هجمات باريس، ونستعد في الوقت نفسه للترحم على مئات بل آلاف الضحايا الأبرياء الذين سيدفعون الثمن سواء في تلك المعركة أو في الرد الإرهابي المتوقع بعدها.
ولو كانت تلك هي بداية النهاية ل«داعش» كما يتوعد الفرنسيون فليس علينا سوى أن نبدأ من الآن العد التنازلي لميلاد التنظيم الإرهابي الجديد الذي سيلتقط الراية من«الدواعش». إنه الشقاء الأبدي الذي أورثه سيزيف لأحفاده في الغرب، ومعهم وبسببهم يشقى العالم أيضاً.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"