أحلامنا التي انكسرت

04:02 صباحا
قراءة 3 دقائق

بعد مرور تسع وثلاثين سنة على قيام مجلس التعاون، لا نستطيع أن نقول إن المجلس قد نجح بامتياز، ولا حتى بدرجة جيد، وأقصى ما نستطيع التسليم به أن أداءه كان مقبولاً، الأمر الذي لا يؤهله لدخول نوادي مؤسسات الإبداع والتميز . وتستطيع أنظمة الحكم في دول المجلس أن تهنئ نفسها على ما تحقق، لكننا، نحن الذين كانت لنا أحلامنا الكبرى عند قيام المجلس، لا نستطيع ممارسة خداع النفس . لقد كنا نعتقد أن ما قاله الرسام الشهير فان كوخ من أنه يحلم ثم يرسم ما يحلم، سينطبق على أحلامنا لمسيرة المجلس، لكن ذلك لم يحدث . لقد ظلّت هناك مسافة بين الحلم وبين الواقع إلى يومنا هذا .

لقد حلمنا بأن تكون للمجلس استراتيجية سياسية واحدة . لكننا اليوم نرى أمامنا ست استراتيجيات متباعدة بشأن قضايا كبرى محورية . فالبعض قد بدأ التطبيع مع العدو الصهيوني والبعض لا يزال يقاطعه . وكذا الأمر بالنسبة للعلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية وإيران . وتتناقض المواقف بالنسبة للموقف من المقاومة العربية في الجنوب اللبناني وفلسطين المحتلة والعراق . وحتى بالنسبة لوجود حدود دنيا للحكم الداخلي في كل دول المجلس، هناك مسافات شاسعة بين ما وصلت إليه هذه الدولة أو تلك ما سيهدد في المستقبل اتخاذ خطوات وحدوية اندماجية في كثير من الميادين .

وعندما قام المجلس ما كنا نتصور أن الوحدة الاقتصادية ستكون عسيرة إلى هذا الحد الذي وصلت إليه . فالاتحاد الجمركي احتاج إلى عشرات السنين، وها أن الوحدة النقدية تؤجل سنة بعد سنة، أما توحيد السياسات التنموية فإنها ستحتاج كما يظهر لسنوات طويلة أخر .

لقد بدأ الحديث عن توحيد المناهج المدرسية منذ ثلاثين سنة . وكان المفروض أن تكون الخطوة الأولى في عملية توحيد تربوي كبير . اليوم يزداد التباعد في كل جانب من السياسات التعليمية، بدءاً من التقليل من المشترك في المناهج وانتهاءً بتسليم البعض للنظام التربوي برمته ليدار من قبل مؤسسات أجنبية .

وبدأ الحديث عن توحيد المشتريات لوزارات الصحة في دول المجلس قبل قيام المجلس . ومع ذلك فلا يزال المشروع محدوداً في مداه وحجمه . وحتى الانضمام للمجلس العربي للاختصاصات الطبية، والذي كانت جميع دول المجلس من مؤسسيه، بدأ يتراجع لمصلحة مجالس اختصاصية محلية وبالتالي شهادات تخصص محلية .

وكان الأمل أن ينتقل المجلس من وضع قوانين مشتركة استرشادية، كما فعل في بداية قيامه، إلى الاتفاق على تبني قوانين موحدة في شتى حقول الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإعلام، لكن ذلك لا يزال متعثراً، بينما وصل الاتحاد الأوروبي إلى وضع دستور موحد . وحتى قيام محكمة للبتّ في الخلافات بين الدول، أو بين المؤسسات المختلفة في الدول، ظل حبيس الخوف من التفريط في السيادة الوطنية .

والواقع أن دول المجلس لم تفهم بعد أن كل خطوات التوحيد بين الدول لا يمكن أن تتم وتصبح جزءاً من الواقع من دون تنازل عن جزء مما يعرف بالسيادة الوطنية، وإن لم يحسم هذا الموضوع في عقول وقلوب المسؤولين الكبار في دول المجلس فإن كل خطوات الوحدة ستحتاج إلى سنين أو حتى إلى عقود طويلة .

لقد كُتب الكثير عن أهمية وجود وزارة متخصصة لشؤون مجلس التعاون في كل دولة عضو، ذلك أن قضايا مجلس التعاون لن تتحرك بالسرعة المطلوبة إذا ظلت شؤون المجلس تدار من قبل دائرة أو قسم في وزارات الخارجية، وكُتب الكثير عن أهمية تغييرات جذرية في وظائف ومكونات الأمانة العامة للمجلس، وذلك تمهيداً لتلعب دوراً كبيراً في التخطيط وأخذ المبادرات واقتراح الحلول ومتابعة القرارات، لكن دول المجلس تتردد في ذلك لأسباب مختلفة، وينطبق الأمر نفسه على أهمية أن يكون هناك تواجد لقوى المجتمع المدني مرادف للقوى الرسمية في المجلس، لكن قادتنا اكتفوا بقيام مجلس استشاري محدود الصلاحيات، تسمي الدول أعضاءه ولا تلتزم بأي من قراراته أو توجهاته .

من هنا يحق لنا إن نقول إن أحلامنا الكبيرة بشأن المجلس قد أصبحت صغيرة ومتناثرة، وأصبحنا نخاف مما قاله الكاتب فرد ألن عن أن شخصاً حلم بأنه كان يأكل أعواد الحنطة الممزقة المكسورة، وعندما قام من حلمه وجد أن نصف فراشه قد اختفى . نخاف أن ينطبق هذا على أحلامنا بشأن مجلس التعاون ونستيقظ على واقع مرير .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"