أحلام العرب وصدمات الواقع

03:00 صباحا
قراءة 4 دقائق
د.مصطفى الفقي

لا نكاد نرى في عالمنا المعاصر أمة جرى استغلالها واستنزاف معظم ثرواتها مثلما هو الأمر بالنسبة إلى الأمة العربية، والسبب ببساطة أنها رضيت أن تعيش خارج دائرة العصر، وأن تقبل بما لم يقبل به غيرها. إنها الأمة التي تتغنى بالأمجاد ولا تكاد تدرك أن الدنيا تجري، وأن معطيات اليوم هي تراث للغد، فلم يعد ممكناً أن يتوهم البعض أن حالة الثبات هي محافظة على الواقع واستسلام له، إذ إن الأمر مختلف تماماً، فحالة الثبات مستحيلة في حالة العوم ضد التيار، حيث يستحيل تحقيقها، ونحن كعرب نجدف دائماً ضد التيار. فالواقع يختلف كثيراً عن التصورات التي سبقت، والأحلام التي مهدت إليه، والرؤى التي نجمت عنه، فنحن أمة عانت طويلاً التدخل الأجنبي، والنفوذ الخارجي، وسطوة القوى الاستعمارية على امتداد القرون الماضية، ومع ذلك فإنه لا توجد لدينا طاقة سلبية للكراهية تجاه من أساؤوا إلينا، بل إننا نشعر أحيانا بأن ما جرى لنا هو جزء من تاريخنا الذي لا مناص منه، ولا نكوص فيه، ولعلي أبسط أمام القارئ عدداً من الملاحظات المتصلة بالقضايا العربية الجوهرية، وما جرى من استنزاف لثروات البلاد، ومؤشرات الوعي القومي فيها:
* أولاً: إن تاريخنا الحديث ليس منفصلاً عن تاريخ العالم حولنا، فهناك شعوب أخرى، وأمم متعددة واجهت موجات التخلف والقهر ما أدى بها إلى الغياب لقرون عدة من صفحات التاريخ، وتاهت في مجاهل ظروف معقدة. لقد عرفت الصين (حرب الأفيون)، واستغرق الهنود في (مسيرة الملح)، أما نحن العرب فقد وقعنا أسرى للعنتريات، ومضينا في التغني بالأمجاد وترديد الأشعار والأذكار عبر عصور مظلمة، وقبلنا أحياناً بسطوة الأجنبي، ونفوذ الدخيل، فتكونت لدينا مركبات نقص تعمقت جذورها في أحشاء الأمة، وضمير شعوبها، فأصبحنا نقبل ما لا يقبله غيرنا، ونرضى بما رفضه سوانا، وعندما هبطت الثروة النفطية أحدثت فجوة كبيرة بين أقطار الأمة، وأثارت الأطماع فينا إلى أن جرى غرس «إسرائيل» في قلب الخريطة العربية كمرصد دائم يستنزف قدرات العرب، ويحول دون تفرغهم لتحدي البناء الحضاري، والبحث العلمي، وهنا تكونت الهوة السحيقة التي فصلت بيننا وبين الأمم المتقدمة، والدول الناهضة، إنه مركب استعماري بالدرجة الأولى، ولكن تاريخنا الثقافي سمح له بأن يمضي ليكبل الإرادة العربية، ويعوق الفكر القومي، ويجعلنا نرضى بأوضاعنا المتخلفة على اعتبار أن ذلك هو قدرنا الذي يجب أن نرضى به، ونتعايش معه.
* ثانياً: يجب أن نعترف بأن فهمنا المغلوط لعقيدتنا الدينية - بكل جلالها وعظمتها - قد أدى بنا إلى حالة من العزلة والهجرة الزمانية لعصور ماضية نفتش فيها عن فقه (ابن تيمية) و(ابن حزم) وغيرهما من فقهاء القرن الثالث الهجري وغيره، من دون أن نتنبه لبساطة الإسلام واتساع الآفاق في روحه السمحاء ومقاصد شريعته الغراء، ثم وفدت علينا من داخلنا موجات إرهابية حاولت توظيف الإسلام السياسي لخدمة أهداف لا تمت للإسلام وللعروبة ولا الإنسانية بصلة، وكان قدر دولة مثل مصر أن تواجه ذلك التحدي الجديد والخطير ببسالة في ظل ظروف اقتصادية ضاغطة، وأوضاع إقليمية معقدة، ومجتمع دولي يكتفي دائماً بالإدانة والشجب. بل إن بعض أطرافه تصب جام غضبها على السياسة المستقلة للدولة المصرية بدعايات كاذبة، وحصار إعلامي لا أخلاقي لكل منجزات الإنسان المصري في ظل هذه الظروف الصعبة والمعاناة الضاغطة. لذلك فإن فهما صحيحاً للإسلام الحنيف يمكن أن ينتقل بنا إلى مرحلة أفضل نواجه فيها أعداءنا، ونتصدى لمن يستهدفون الدولة المصرية، ويستهدفون معها بالضرورة الكيانات العربية الأخرى في محاولة لاغتيال الروح القومية، والقضاء على أية محاولة جادة للصحوة.
* ثالثاً: إن أصداء عصور الظلم والظلام في تاريخنا لا تزال تطفو أحياناً على السطح، وأشعر بأن هناك مواريث مملوكية، وأخرى عثمانية، تحرك مسيرتنا، وتؤثر في أفكارنا، فلا تزال قيمة الفرد العربي محكومة بأطر طبقية موروثة لا تتعلق فقط بمن يملكون ومن لا يملكون، ولكنها تتعلق أيضاً بمن يعرفون ومن لا يعرفون، فنحن لم نستوعب تماماً الأطروحات العصرية التي تتحدث عن ضرورة التهيؤ لما هو قادم، إذ إننا أمام انقلاب فكري كبير، وتطور تقني كاسح، فنحن ندخل عصر الذكاء الاصطناعي في جزء منا، بينما لا يزال بعضنا غارقين في عصور الغباء التحكمي الذي يطوق حياتنا.
وهذا التفاوت في الرؤية والاختلاف في القدرة على التحليل والتفسير قد أصبح يؤدي بنا - عربياً وإسلامياً - إلى حالة من الانقسام في الوعي والتفاوت في الإدراك، حتى أصبح الحديث عن (خير أمة أخرجت للناس) شعاراً لا يمت للواقع بصلة، ولا يرتبط بما هو قائم، لذلك فإننا نظن أن فهمنا لأنفسنا، وتحليلنا لتاريخنا، وتصورنا لمستقبلنا في ظل كل التطورات الهائلة التي يشهدها العالم المعاصر، تؤكد أن هذه الأمور هي الكفيلة بالخروج مما نحن فيه، ولو بعد حين.
هذه قراءة عاجلة في دفتر أحوالنا الذي يشير إلى الجهد الكبير الذي نبذله، ويشير أيضاً إلى التحديات الهائلة التي تواجهنا، وهو أيضاً يحاول القضاء على زراعة اليأس والاستغراق في جلد الذات فقط، من دون أن يكون هناك تحرك إيجابي يستند إلى وعي الأمة ليدفعها إلى الأمام، ويمضي بها نحو غايات واضحة، وأهداف محددة للقضاء على الهوة وتجسير الفجوة بين أحلام العرب، وصدمات الواقع.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"