ألوان العلم وحرية الشعوب

05:57 صباحا
قراءة 4 دقائق

قد لا تكون الحرية شيئاً محسوساً، لكنها من أكثر القيم الإنسانية أهمية في الحياة . وهذا ما يجعل الكائنات الحية جميعها تقاتل حتى الرمق الأخير في سبيل الحصول على حريتها . ولا يمكن للإنسان، سواء كان رجلاً، أو امرأة أو طفلاً، أن ينعم بحريته في بلد يخنقه الحصار ويكبله الاحتلال، كما لا يمكن لمن يعيش في بلاده حراً أن يشعر بمعاناة من فقدوا الحرية في بلادهم وآلامهم، تلك المعاناة والآلام التي تدفع الشعوب المكبلة للمطالبة بحريتها والنضال لأجلها . وفي كل بلد من البلدان، يُرمز إلى الحرية والاستقلال بعلم مكون من مجموعة من الألوان، ولأجل ذلك، خاضت الشعوب عبر القرون حروباً كثيرة، وناضلت باستماتة كي تغرس أعلامها في تراب أوطانها رافضة أن يرفرف أي علم غريب بألوانه في سمائها .

والدول التي استعمرتها بريطانيا في معظم أنحاء العالم، ومن بينها معظم البلدان العربية، ناضلت عقودا من الزمن لتنزع العلم الذي غرسه المستعمر في أراضيها . ولأن العلم البريطاني يذكرنا بالاستعمار فإن رؤيته قد لا تسرنا كثيراً، بل على العكس، يعد هذا العلم بالنسبة إلينا كما بالنسبة إلى الشعوب الأخرى التي استعمرها البريطانيون، سببا في إثارة الذكريات المؤلمة وتحريك مشاعر الثورة ضد كل ما من شأنه أن يسلب حرية لا نلمسها بأيدينا لكننا نعتز بها ولا يمكننا الاستمرار بالعيش من دونها .

وما الأعلام التي زرعتها بريطانيا في كل البلدان خارج حدودها إلا دليل على الاحتلال والغزو العرقي البغيض والمرفوض . لذا كان على الشعوب أن تقاتل وتحارب الوجود البريطاني على أراضيها لتنال حريتها وتنزع علم المستعمر لتحل مكانه أعلامها مرفرفة في سمائها، مشبعة بألوان الحرية والاستقلال .

ولقد اختفت الأعلام الغريبة من المشهد السياسي منذ مدة غير بعيدة، لكنها ما لبثت أن عادت إلى بلادنا بطريقة أخرى . ففي أواخر الثمانينات وخلال التسعينات، وبعيداً عن الساحة السياسية، ظهر العلم الأمريكي على القمصان والقبعات وحتى على الأحذية مرسوماً أو مطرزاً، واتخذ التعبير عن الحرية أسلوباً جديداً من خلال الأزياء لدى الأمريكي وغير الأمريكي .

وفي العالم العربي، وفي منطقة الخليج تحديداً، سادت النظرة إلى الولايات المتحدة لفترة من الزمن، على أنها دولة الإنقاذ التي ساعدت في تحرير الكويت، مما حدا بالكثير من العرب إلى ارتداء أزياء يزينها العلم الأمريكي تعبيراً عن التقدير والامتنان . لكن الأخطاء الفادحة التي ارتكتبتها أمريكا والحروب الضارية التي شنتها فيما بعد، شوّهت صورتها وزرعت في النفوس خيبات أمل كبيرة، ولم تعد أمريكا في نظر الكثيرين أرض الأحرار وموطن الشجعان!

وعبر الأزياء أيضا، شهدت البلدان التي تحررت من الاستعمار البريطاني في الآونة الأخيرة، عودة لعلم تلك الدولة، وصارت رؤيته على أجساد الناس في جميع أنحاء العالم أمراً مألوفاً، فقد ارتداه الهندي والإفريقي وحتى العربي . فما معنى ذلك؟ وما الغاية من تصميم هذا النوع من الأزياء؟

يرى البعض أن الأمر قد لا يتعدى البحث عن التسلية والمرح وأنه لا يسبب أي أذى لأحد، فما نراه اليوم ليس سوى تصميمات لأزياء مبتكرة، ولا بد من أن يترك العلم الأمريكي أو البريطاني في يوم من الأيام الساحة لأعلام أخرى لتشق طريقها عبر الأزياء . لكن الواقع مع الأسف، ليس بالبساطة التي يراها البعض، وإلا لما كانت الأزياء المزينة بالأعلام في زمن العولم الذي نعيشه مخصصة لدولة دون أخرى . وإذا كان الأمر لا يتعدى نوعاً من الابتكار في الأزياء ولا يضر بالآخرين، فلماذا كانت نظرة العالم مختلفة عندما ظهرت الممثلة البريطانية تيلدا سوينسون في مجلة فوغ بنسختها الإنجليزية وهي ترتدي وشاحاً مطرزاً بالعلم الفلسطيني؟ حينها لم يُنظر إلى تصرف سوينسون على أنه مجرد تعبير عن فكرة جديدة في عالم الأزياء، فقد تعرضت تلك الممثلة إلى موجة من الانتقادات اللاذعة، وذهب البعض إلى المقارنة بين ألوان ملابسها الرياضية وألوان صليب النازية المعقوف .

إن هذا لهو النفاق الفظيع الذي يضرب كالمعول في الرؤوس ويشعل الغضب في النفوس . فعندما توضع القوانين ثم يجري التلاعب بها لمصلحة فئة دون أخرى، يصبح ارتداء ألوان الأعلام بالنسبة للبعض رمزاً لحرية بذلت لأجلها الأرواح، وبالنسبة للبعض الآخر عاملاً لتشويه صورهم!

في الواقع، ليست الأزياء سوى تعبير عن الذات، وكما يشكل هذا النوع من التعبير عن الذات جانباً من الإبداع فإن له أهدافه السياسية . فقد باتت الأزياء وسيلة لتصنيف البشر إلى أخيار وأشرار، فارتداء أعلام بلدان شنت حروباً وتلطخت أيديها بالدماء، تصرف عصري ومقبول تماماً، أما بالنسبة للشعوب الأخرى التي لم تقم بأفعال مماثلة فهو ليس كذلك على الإطلاق! إذا كانت الحرية تقوم بالأساس على التعبير عن الذات، فأي تعبير عن الذات هو ذلك الذي يسمح بارتداء الأحمر والأبيض والنجوم الزرقاء باعتباره تصرفا عصرياً، ولا يسمح بارتداء الأحمر، والأخضر والأبيض والأسود؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​رئيس تحرير صحيفة Gulf Today الإماراتية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"