أي دور للبرجوازية الوطنية العربية؟

05:04 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو
لا يستقيم مفهوم «البرجوازية» إذا تمّ اختزاله إلى بعده الطبقي الصرف، بعيداً عن طابعه التقدمي، وإلا تحوّل البرجوازيون من كونهم طبقة ذات وظائف اجتماعية - تاريخية إلى مجرد طيف من الأغنياء، أصحاب الرساميل الكبيرة، والفاقدة لأي دور تغييري على المستوى الوطني العام، وهو ما يمكن وصفه حينها بأنه أردأ حال تصل إليه البرجوازية كطبقة، وممثليها من الأفراد، من تجّار وصناعيين.
إن استعادة الحديث الغائب أو المغيّب عن البرجوازيات الوطنية العربية، يبدو ضرورة لا غنى عنها، لفهم جملة التحوّلات التي أوصلت المجتمعات العربية إلى ما هي عليه، بل ولفهم أزمة السياسة عموماً، وهو الأمر الذي لا ينفصل، بطبيعة الحال، عن شروط الخروج من المأزق التاريخي، وغياب أي ملمحٍ جدي لولوج العصر في وقتٍ قريب، وهو ما تؤكده العديد من المؤشرات ذات الصلة بالتنمية والحوكمة.
لقد نُظر إلى «البرجوازية» العربية في أدبيات وخطاب اليسار العربي، بشقيه القومي والاشتراكي، على أنها طبقة مضادة لطموحات «الجماهير»، وقد حوربت هذه الطبقة في ستينات القرن الماضي على وجه الخصوص، في مصر وبعض دول المشرق العربي، وتمّ تأميم أملاكها، ومصادرة أموالها، وإيقاف مشاريعها، وهو ما دفع بكثير من أبنائها للهجرة، والاستقرار في بلدان أخرى، وانقطاع صلاتهم عن مجتمعاتهم.
وإذا كانت ذات الأنظمة الاشتراكية والقومية التي حاربت أي دور للبرجوازية في ستينات القرن الماضي، إلا أنها عادت لاحقاً وتحالفت مع هذه الطبقة، وتمكّنت من تحويلها إلى مجرد تابع وظيفي، يلعب في المساحة المحددة له، وقابلاً بتغييب دوره السياسي، للمحافظة على مصالحه التقليدية، في ظل مناخ عام، قُيدت فيه حريات التعبير الأساسية، وسُدت فيه منافذ العمل العام، وخصوصاً في الاتحادات والنقابات والأحزاب.
وعلى الرغم من الدور الوطني الذي لعبته البرجوازيات العربية في حركة الاستقلال من الانتداب، وتأسيسها بداية حياة سياسية عصرية، بفعل موقعها المديني المتقدم، وبفعل دراسة بعض من أبنائها في الجامعات الغربية، وبفعل تمفصلها الاجتماعي، وتعاملها المباشر مع مختلف الفئات والشرائح، إلا أنها بدأت تخسر تدريجياً مواقعها الفاعلة، حتى انكفأت في أطرها التقليدية، ولم تعد على تماس مباشر مع مصالح الفئات الاجتماعية الأخرى، والتي باتت يمثلها شكلاً الحزب السياسي الحاكم، وهو الحال الذي استمرّ حوالي أربعة عقود، ابتداءً من أوائل سبعينات القرن الماضي وصولاً إلى ما يسمى «الربيع العربي».
خلال فترة العقود الماضية، نمت دولة المحسوبيات على حساب الدولة الوطنية، حيث احتلّ الولاء المقام الأول في علاقة الفئات الاجتماعية بالنظم السياسية، ونمت بفعل هذه الدينامية فئة من الأثرياء لا علاقة لهم بدورة الإنتاج والسوق، خصوصاً أن الإنتاج بمعناه الحقيقي أصبح الغائب الأكبر عن دورة الحياة الاقتصادية، ونظراً لجملة التحوّلات التي طرأت على بنيتي الدولة والمجتمع تراجع دور البرجوازية (التي أشرنا إلى قبولها بدور التابع) لمصلحة الفئة الجديدة من أصحاب الرساميل، ممن يملكون علاقات نافذة بأصحاب القرار في السلطة التنفيذية، لكن لا علاقة لهم لا من قريب أو من بعيد بالهموم الاجتماعية والوطنية.
وقد كشف ما يسمى «الربيع العربي» المكانة الهشّة للبرجوازيات العربية، فهي لم تستطع أن تكون إلى جانب الحراك الشعبي، نظراً للخلل الفادح الذي أصاب بنيتها، فقد تفككت الروابط التي كانت تجمع بين أفرادها، كما تفككت الروابط التي كانت تجمعها بباقي الفئات الاجتماعية، ولم تتمكن تلك البرجوازيات، من بلورة دور فاعل لها.
إن الخطر الكبير الذي لا يمكن تفادي نتائجه المرعبة، في أي تحوّل سياسي في مجتمعات كمجتمعاتنا العربية، يكمن في غياب أي قوى وسيطة بين النظام السياسي وبين الحركات الشعبية، والتي تتشكّل عادة من الأحزاب والنقابات والبرجوازية الوطنية، والتي تمنع عادة تحوّل الاحتجاج الاجتماعي- السياسي إلى مواجهة عنيفة بين النظام السياسي والفئات الشعبية الغاضبة، وهو الأمر الذي وقعت فيه معظم دول ما يسمى «الربيع العربي»، والتي حُرمت على مدار عقود من حياة سياسية حقيقية، ومن تبلور مصالح الفئات الاجتماعية عبر ممثليها من نقابات واتحادات، أو البرجوازية الوطنية.
إن التعويل اليوم على أي دور فاعل للبرجوازيات الوطنية العربية يبدو أمراً مشكوكاً فيه، إذ إن حالة السكون والضعف التي عرفتها لا تقتصر مفاعيلها على موقعها وقدرتها على الحراك، بل على ماهيتها، فهي لم تتمكن من مغادرة موقعها كقوى تقليدية محافظة، تنتمي إلى القديم، وتخشى المراهنة على الجديد، بما فيه روح العصر، من عقلانية وحداثة وديمقراطية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"