إذا الأحلام وُئِدت . . .

05:46 صباحا
قراءة 4 دقائق

أطلقوا على رأسها رصاصة فخرت على الأرض وصمتت عن الكلام . أخرسوها لأنها رفعت صوتها مطالبة بحقها في التعلم . فتاة في عمر الورود في ربيعها الرابع عشر، أسكتها مسلحون يدَّعون أنهم يفعلون ما يفعلون في سبيل الله . لم تكن الطفلة ملالا يوسفزاي تحمل في رأسها أفكاراً سياسية، ولم تهدف إلى تشريع القوانين، لكنها ملكت من الشجاعة ما جعل الذعر يدب في نفوس رجال نُزعت الرحمة من قلوبهم .

لقد شبت ملالا في بلد لا يُنظر فيه إلى التعلُّم كحق من حقوق المرأة، فهي مواطنة من الدرجة الثانية، ولا يحق لها أن تطأ بقدميها أرض المدرسة بعد الصف الرابع الابتدائي . وفي الوقت الذي يحتفل فيه الأطفال في وادي سوات، حيث تقطن ملالا، بتخرجهم في الصف الرابع، كانت ملالا تشعر بحزن عميق لأنها أنهت تلك المرحلة .

لكن ملالا لم تسكت على الظلم، ورفعت صوتها عالياً مطالبة بحقها في التعلم رغم علمها بما يمكن أن تتعرض له من أذى، فقد رأت بأم عينيها ما يفعله أولئك المسلحون بأبناء بلدها . لقد تحدّت ملالا الظروف وانتصرت عليها حين أخفت كتبها تحت زيها المدرسي الذي ارتدته في الصف الرابع، وقصدت المدرسة مجدداً لتنهل من العلم في صف أعلى لا يُسمح لها بالانتساب إليه .

أرادت ملالا أن تكسر شوكة الظلم وأن تواصل تعليمها مهما حدث وبأي وسيلة، فقد كانت المدرسة المنبر الوحيد الذي تعبّر فيه عن ذاتها، تتبادل الآراء وتعيش أحلام المستقبل . فأي إنسان لا يتذكر أحلامه بتغيير العالم من حوله وهو في السنوات الأولى على مقاعد الدراسة؟ لقد أرادت ملالا أن تحظى بحقها في هذه الأحلام وناضلت من أجل ذلك، ومن أجل كل فتاة في قريتها تحلم بتغيير الواقع من حولها .

وبركوبها كل يوم حافلة المدرسة، كانت ملالا تقترب أكثر فأكثر من أحلامها، ومن على مقعدها في الحافلة، كانت تنظر عبر النافذة إلى العالم الخارجي وهو يتحرك أمام عينيها، ولم تكن تعلم أن دماءها الطاهرة البريئة سوف تسيل على ذلك المقعد، لأن رصاصة سوف تخترق الحافلة وتستقر في رأسها . . . لم تكن الحافلة تقل جنوداً أو تنقل أسلحة، إنما كانت تنقل فتيات صغيرات بريئات أردن أن يخرجن من الجهالة والظلام ليعشن في نور العلم والحقيقة .

حادثة مؤلمة تدمي القلوب، أدركنا من خلالها أن من أطلق النار على رأس تلك الصغيرة كان مذعوراً أكثر منها، لأن صوت المرأة حين يصدح بالحقيقة يصبح سلاحاً فتاكاً، هكذا كان صوت ملالا الذي اخترق جدران الصمت ودوَّى عالياً بكلمة الحق متغلباً على صوت المدافع، متجاوزاً حدود دولة باكستان ليتردد صداه في العالم كله .

لقد سمعتُ صوت تلك الطفلة، ولا شك أنكم أيضاً سمعتم صوتها، وعلينا أن نقنع أولئك الذين يرفضون حتى الآن سماع صوت ملالا أن يصغوا إليها . لا شك في أننا لا نفكر في خضم الحياة اليومية بمعاناة ملايين النساء في العالم، فنحن ننسى أنهن يعانين عدم حصولهن على أبسط المقومات الحياتية . وقد نتوهم أحياناً أن التمييز على أساس الجنس بات جزءاً من الماضي، وأن هذا النوع من الظلم لم يعد له وجود اليوم، لكن عياراً نارياً يوجه إلى رأس فتاة صغيرة، قد يوقظنا فنتذكر أن المطالبة بالمساواة بين الجنسين مازالت مستمرة، وأن المعركة لم تنتهِ بعد .

لم يقصد بتلك الرصاصة الغادرة إسكات صوت ملالا وحدها، إنما قُصد بها إنهاء حياة كل النسوة كي لا يطالبن بحقوقهن ويبقين في دائرة الصمت محاطات بعالم من الجهل المطبق . لقد حضرتني وأنا أخط هذه السطور، صورتان لتلك الفتاة المناضلة، واحدة لطفلة تقاتل من أجل حقها في التعلم، والأخرى لفتاة تصارع من أجل البقاء على قيد الحياة . وفي الصورتين تحمل ملالا معاني الفضيلة . ملالا المناضلة الحقيقية التي تحدثت عن أهمية العلم في حياتها، فقالت ذات يوم #187;أعرف أهمية العلم تماماً لأن أقلامي وكتبي انتُزعت مني عنوة!#171; .

لقد حالف الحظ الكثيرين منا، لأنهم أرغموا على الدراسة في كتب فرضت عليهم، في الوقت الذي تنتزع فيه الكتب من بعض الأطفال انتزاعاً . وقد نكون محظوظين أيضاً لأننا لسنا مضطرين إلى خوض المعارك من أجل المساواة بين الجنسين، لكن هذه الميزات تعطينا أكثر من سبب كي نقاتل . أوليس من العار أن نتلقى كل هذا العلم ونقف مكتوفي الأيدي أمام دم يراق في حافلة صغيرة بعيدة عنا، ثم يجف سريعاً ويصبح قاتماً، بينما تتمكن فتاة صغيرة من الوقوف في وجه الظلم والاستبداد وترفع صوتها لتحارب العنف والجهل؟

علينا أن نقاتل ونقاتل، فالدعوة إلى المساواة بين الجنسين لا تكفي إن لم تعم المساواة الأرض ويصبح العالم متوازناً . وبانتظار ذلك، على هذا العالم المائل أن يصغي إلى كل #187;ملالات#171; الأرض، وعلينا أن نوحد صوتنا جميعاً في الدفاع عنهن والحديث عن معاناتهن، كي يتردد الصوت عالياً بما فيه الكفاية فلا يتجاهله أحد . نحن ندعو الله كي تسترد ملالا عافيتها، وندعوه ليرفع المعاناة عن كل فتاة مثلها، كي يظل كوكب الأرض المكان الأمثل للعيش بهناء .

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​رئيس تحرير صحيفة Gulf Today الإماراتية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"