اشارات صينية مبكرة في القرن الجديد

05:51 صباحا
قراءة 4 دقائق

لا شك في أن من شاهد حفلة افتتاح الألعاب الاولمبية في الصين، ولو على شاشة احدى الفضائيات، شأنه شأن مليارات البشر سواه، قد رأى بالعين المجردة سلسلة من الاشارات البليغة التي انتهز مسؤولو الصين وشعبها فرصة الاحتفال الرياضي لاطلاقها، وهي إشارات تتجاوز بكثير اطار ذلك الاحتفال الرياضي الفخم، بشكله ومضمونه.

إنه، ومنذ اللحظات الاولى للانطلاق، قد أعلن عن نفسه ليس فقط كاحتفال لا مجال للمقارنة بينه وبين أي احتفال مشابه، لأي دورة اولمبية سابقة، بما في ذلك احتفالات موسكو ولوس انجلوس وسيدني واثينا الشهيرة، بل كاحتفال امبراطوري لدورة اولمبية امبراطورية، لا نظير له ولها في التاريخ حتى الآن:

انها دورة امبراطورية بأرقام موازنة الانفاق على تنظيمها، والتي بلغت 28مليار يورو، أي ما يقارب الاربعين مليار دولار. وهو مبلغ لا يعكس فقط التقدم الاقتصادي للمجتمع الصيني، الى درجة جعلته قادرا على تخصيص مبلغ كهذا لتنظيم وافتتاح دورة رياضية لا تستغرق وقائعها اكثر من اسبوعين، لكن قيمته الحقيقية تتضاعف بمقارنته مع قدرة أي دولة اخرى من عالم اليوم، وأي مجتمع آخر في عالم اليوم، على اقتطاع مبلغ بهذا الحجم وإنفاقه على دورة رياضية لا تتجاوز الاسبوعين.

انها دورة امبراطورية، عندما نتأمل القدرة التنظيمية الهائلة التي تمكن المجتمع الصيني من تنظيم دورة رياضية بهذه الضخامة، وحفلة افتتاح اسطوري بهذه الروعة غير المسبوقة.

إنه احتفال امبراطوري بعدد الرياضيين المشاركين في هذه الدورة، والذي ارتفع حتى قارب الاحد عشر الفا، وهو رقم غير مسبوق في اي دورة اولمبية سابقة.

إنه احتفال امبراطوري بالعدد القياسي للدول المشتركة (204 دول)، والعدد القياسي لرؤساء الدول الذين حرصوا على أن تظهر صورتهم امام الكاميرات التي ستنقل حفلة الافتتاح، وقد ارتفع العدد حتى بلغ تسعين رئيس دولة، بينهم الرؤساء الامريكي والفرنسي والبرازيلي. وهو حضور لا حدود لكثافة وتنوع معانيه، خاصة اذا استذكرنا الدورتين الاولمبيتين الروسية والامريكية (في موسكو ثم لوس انجلوس)، واللتين تميزتا بالمقاطعة الرياضية والسياسية المتبادلة للدولتين لبعضهما بعضاً، في ذروة الحرب الباردة، في حين جاء العالم كله، شرقه وغربه، يجامل الصين في دورتها.

غير ان الارقام التي تعكس الحجم الامبراطوري للمعطيات المادية لهذه الدورة (وحفلة افتتاحها)، لم تكن الاشارات الوحيدة التي حرصت العين (دولة وشعبا) على بثها للبشرية جمعاء، والا لما اكتسبت هذه الاشارات كل هذه الاهمية الاستثنائية التي تستحق التوقف عندها، واستشراف ما تعنيه عند عتبة العقد الاول من القرن البشري الجديد، بل انها استكملت باشارات معنوية تكمل معناها وتعمقه وتنفخ فيه روحه الحقيقية. لقد تراوحت المعاني والرموز الوثيقة التي ظل احتفال الافتتاح يطلقها لثلاث ساعات متواصلة، بين حدي الاعتزاز بكل تفاصيل المسيرة الحضارية والابداعية لتقدم الحضارة الصينية والمجتمع الصيني عبر خمسة قرون، والانفتاح الكامل على وحدة البشرية ووحدة الحلم البشري، في اللحظة المعاصرة. كل ذلك تم التعبير عنه بلغة صينية خالصة وروح صينية خالصة، بدليل ان اول ما لفت الانظار عند الوصول في حفلة الافتتاح الى استعراض فرق الدول المشاركة، ان ترتيب ظهور هذه الدول لم يتبع، كما جرت العادة حتى الآن في كل الدورات الاولمبية السابقة، ترتيب الحروف في الابجديات الأوروبية، بل ترتيب الابجدية الصينية المختلفة تماما، حتى إن دولة مثل تركيا سبقت في الاستعراض دولا مثل كندا والدانمارك. والمتأمل في أعماق هذا التصرف، يدرك أنه ليس مجرد تعبير أجوف، عن اعتزاز أحمق بالابجدية الصينية، لكنه تعبير مستحق عن قدرة الشعب الصيني، والمجتمع الصيني الحديث، والدولة الصينية الحديثة، على تنظيم بالغ الدقة والفخامة لدورة بهذه الضخامة، وتنظيم المشاهد الدقيقة لحفلة الافتتاح الطويلة، بقدرات صينية ذاتية خالصة، من دون الاستعانة بأي خبير اجنبي، لا في التصميم الفني، ولا في المهارات الادارية والتنظيمية والتنفيذية.

إنه العملاق الصيني، يحاول ان يبدو بأبهى وأقوى صوره الانسانية على مسرح الحياة الدولية المعاصرة، في العقد الاول من القرن الجديد. لكن القصة الطويلة للبشرية مع صعود وهبوط الامبراطوريات (منذ الامبراطورية الرومانية، وحتى الامبراطورية الامريكية)، هذه القصة الطويلة تعلمنا أن المحتوى الانساني للامبراطوريات حديثة الظهور، لا يكفي لترسيخه وتحديده والتعبير عنه، مجرد دورة اولمبية ناجحة، مهما بلغ مستوى روعتها، وروعة حفلة افتتاحها.

لقد كان الظهور الاول لجنين الامبراطورية الامريكية الجديدة في مطلع القرن العشرين، مترافقا مع نهاية الحرب العالمية الاولى، يحمل من المعاني الانسانية والحضارية اعمق واشمل مما تحمله دورة ألعاب اولمبية، لقد حمل ذلك المشهد للعالم يومها، البيان الرئاسي الاشهر للرئيس الامريكي وودرو ويلسون، الذي وعد البشرية كلها، بحق جميع الشعوب في تقرير مصيرها بحرية مطلقة، خاصة الشعوب الصغيرة، واعدا بوضع قوة الامبراطورية الجديدة الصاعدة وراء تحقيق هذه الوعود. أعلنت امريكا ذلك، وهي في مرحلة تكون اولى لامبراطورية عالمية جديدة، لكن داخل حدودها. لكن هذه الامبراطورية نفسها، عندما تجاوزت حدودها، وانتشرت في جميع انحاء العالم، مارست التقيض الكامل لبيان ويلسون الشهير، وقامت بسحق الشعوب الصغيرة، بقسوة أشد من الامبراطوريتين السابقتين: الانجليزية والفرنسية.

الصين ما زالت جنين امبراطورية عظمى، تمثل داخل حدودها ربع البشرية (على حد تعبير الرئيس الفرنسي)، وتلعب حتى الآن في السياسة الدولية أدواراً هادئة اقرب الى الحياد السلبي، مفضلة الانصراف للتحول الى اقوى قوة اقتصادية في العالم. الذي نرجوه عندما تندفع هذه القوة العظمى الى خارج حدودها، ان تتذكر تماما معاني وحدة البشرية، ووحدة الحلم البشري، التي اطلقتها في افتتاح دورتها الاولمبية التاريخية، وأن تتذكر خصوصا الويلات التي جرتها مطامع الامبراطوريات السابقة على نفسها وعلى البشرية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"