الأزمات والأسعار

03:04 صباحا
قراءة 4 دقائق
الدكتور لويس حبيقة *

الإنسان يتصرف أحيانا بمنطق مقبول وليس مرتفعا أي يمكن أن يكون الإنسان متفائلا أو متشائما، له ثقة كبرى بنفسه أو العكس وهي جميعها تنعكس على تصرفاته في السوق.
المعروف أن الأزمات المالية تحصل دورياً وتسبب الخسائر الكبرى للمستثمرين. الأزمات هي سقوط الأسعار في العقارات والأسهم وكافة السلع والخدمات بسرعة ونسب عالية. من قال أولاً إن الأسعار المتداولة تعبر فعلاً عن أسعار الأصول أو السلع وأنها ليست منتفخة أو مرتفعة دون سبب منطقي. من قال إن الأسعار تعكس القيمة الحقيقية وأنها لم تتأثر بعوامل بعيدة عن المنطق أي نفسية وربما مزاجية أو أيضا اجتماعية وثقافية وغيرها. عندما لا تعبر الأسعار عن القيمة الحقيقية، من الطبيعي أن ترتفع أو تسقط فجأة دون أي معيار مقبول أو مفهوم. ما يحصل اليوم بشأن أسعار «البيتكوين» مدهش ومخيف ومن الممكن أن يسبب خسائر كبرى لهواة الأسواق وهم عموما أول الخاسرين في الأسواق العالمية المتقلبة. ما يميز «البيتكوين» عن بقية العقود المماثلة أنها غير مرتكزة على سلعة واضحة أي ذهب أو نحاس أو قمح أو ذرة بل لها قيمة معنوية ونفسية غير واضحة ما يسبب تقلبها الكبير والمفاجئ. هنالك وعي وتنبه دوليان بشأن خطورة «البيتكوين» وطرق التبادل بها خوفا من السقوط.
هل هنالك مشكلة في الأسواق العادية وهل تعبر أسعارها عن «ندرة» السلع والخدمات.
هل تتحرك الأسعار ارتفاعا أو انخفاضا أكثر بكثير من المنطق أي مما تفرضه التغيرات العادية في عوامل العرض والطلب؟ هل تساهم الأسواق في تعزيز المنطق في تصرفات عملاء السوق أم أن العكس صحيح؟ هل أن التصرف غير المنطقي في السوق يضر بصاحبه أم العكس صحيح؟ تشير الإحصائيات إلى أن من يتصرف بتهور أو يغامر يربح في العديد من الأحيان ويخسر مرات أخرى. هل يتعلم الإنسان دائما من أخطائه أي يخسر مرة ويربح فيما بعد؟ لا تشير الوقائع إلى التعلم من التجارب خاصة إذا كانت تكلفة التعليم مرتفعة أي دراسة طويلة وتدريب باهظ التكلفة. تشير الوقائع إلى أن من جرب حظه في السوق وخسر، يحاول مجددا معتمدا على طرق أو تقنيات مختلفة يأمل أنها ستجلب له الربح. هنالك إذاً حدود منطقية لتصرفات الإنسان حتى لو كانت التكلفة عليه وعلى قدراته المالية كبيرة.
تقول العلوم الاقتصادية الأساسية إن الأسعار تعكس كل المعلومات المرتبطة بعاملي العرض والطلب. في الحقيقة المعلومات ليست دائما متوافرة بسرعة وبشكل كامل وصحيح، ما يسبب خضات كبرى وخسائر أكبر. فالأسواق لا يمكن أن تعطي دائما نتائج فضلى، إذ غالبا ما تكون هنالك عوائق تعرقل توازنها بسرعة ولمصلحة المتعاملين فيها. من هذه العوائق صعوبة التواصل بين الأسواق الجغرافية المختلفة مما يسبب حصول أسعار مختلفة لنفس السلع، وهذا ما ترفضه الأسواق الشفافة الفاعلة. كما أن عملاء السوق لا يتصرفون دائما بالشكل الفاضل والمنطقي المتوقع منهم. هنالك مثلا من ينفق الكثير دون حساب أو من يشرب أو يدخن أو يأكل الكثير فيضر صحته. هنالك من يتعب كثيرا لجني الدخل القليل ثم يتبرع بقسم مهم منه لذوي الحاجات المادية والفقراء أو ينفقه على حاجات غير ضرورية ومضرة. تصرفات الإنسان ليست دائما فضلى أو كما تفترضه له العلوم الاقتصادية. الاقتصادي «هربرت سايمون» كان أول من اعترض على هذه الافتراضيات ووضع نظرية «المنطق المحدود» ما ساهم في حصوله على جائزة نوبل للاقتصاد لسنة 1978. من نتائجها أن الإنسان يتصرف أحيانا بمنطق مقبول وليس مرتفعا أي يمكن أن يكون الإنسان متفائلا أو متشائما، له ثقة كبرى بنفسه أو العكس وهي جميعها تنعكس على تصرفاته في السوق وفي الحياة عموما.
لم تتوقف الدراسات المماثلة مع «سايمون» بل توسعت مع الوقت لتصل إلى «ريتشارد تايلر» فيحصل في 2017 على جائزة نوبل للاقتصاد. ارتكزت نظريات تايلر على دمج علم النفس بالاقتصاد فوسعه وأنسنه فتعلقت به حكومات عدة بدأ من بريطانيا التي أنشأت وحدة خاصة له في رئاسة الوزراء. يريد تايلر تشجيع المواطنين على اتخاذ قرارات لمصلحتهم أو تسهيل ذلك كما على التصرف في اتجاهات معينة بإرادتهم كدفع الضرائب مثلا.
ما هي بعض الأمثلة التي يمكن أن تفسر ما آلت إليه العلوم الاقتصادية حتى «تايلر»، وبالتالي مساهمتها في تفسير الوقائع والتطورات على الأرض. هنالك وقائع تشير إلى أن الإنسان يشعر بالخسارة أكثر بكثير من الربح، يقيم الأصول التي يملكها أكثر بكثير من تلك المملوكة من غيره مما يقيد عمليات التبادل التجاري.
أولا: عندما يحصل المواطن على فاتورة بطاقة الائتمان، يسددها من حسابه الجاري وليس من حساب التوفير حتى لو لم تكن في الأول أموالا كافية. ذهنية الحفاظ على التوفير تبقى في عقل الإنسان للحماية ولمواجهة أيام سوداء يمكن أن تأتي.
ثانيا: حاول تايلر دراسة كيفية زيادة التوفير كما زيادة التحصيل الضرائبي أي تشجيع المواطنين على التصرف الصحيح تجاه المجتمع والدولة. كما شجعه أيضا على الاهتمام بصحته وتخفيض استهلاك الطاقة بإرادته الحرة.
ثالثا: عندما تنخفض أسعار النفط، يتحول المواطنون إلى النوعية الأفضل بدل الاستفادة من الأسعار الأدنى وهذا ما نشهده في كل الدول. يطالب المواطن بتخفيض أسعار الطاقة التي لا تنعكس على إنفاقه لأنه يغير تركيبة السلة الاستهلاكية.
رابعا: معظم أصحاب سيارات الأجرة يضعون لأنفسهم هدفا ماليا محددا لليوم الواحد، وبالتالي يتوقفون عن العمل باكرا في الأيام التي تضج بالزبائن كما يعملون ساعات أطول في الأيام التي ليس فيها طلب مرتفع. منطق زيادة الدخل يشير إلى عكس ذلك تماما، لكن تصرف السائق هو كذلك لأن الهدف محدد مسبقا.
خامسا: في بريطانيا ومنذ سنة 2012 وبتوجيه من «تايلر» أعطي الموظفون حرية الانضمام إلى مؤسسات الضمان الاجتماعي الخاصة كما طريقة الانضمام، خيروا بين تسديد مساهمتها في المؤسسة مباشرة أو سحبها من الأجر شهريا وقيام رب العمل بالتسديد عنهم. الخيار الثاني الذي اعتمد كان الأفضل وساهم في زيادة التوفير العام في بريطانيا مما انعكس إيجابا على أوضاع العمال واستقرارهم الاجتماعي.
سادسا: في مسألة تبرع الأعضاء، اعتمدت إسبانيا على نظريات تايلر التي تفترض أن كل مواطن متبرع إلا إذا اختار العكس. من الوسائل التي يقترحها تسجيل المواطن كمتبرع عندما يقدم طلبا لرخصة قيادة السيارة أو عند تجديدها مثلا.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"