الاستراتيجية التركية في الشرق الأوسط

02:20 صباحا
قراءة 4 دقائق
الحسين الزاوي

بعد مرور 5 سنوات على بداية الأزمة السورية بدأت الاستراتيجية التركية، في الشرق الأوسط وفي عموم المنطقة العربية، تواجه صعوبات كثيرة وتحديات خطرة وغير مسبوقة نتيجة للتطورات المتوالية والمفاجئة على أكثر من صعيد، فالحسابات الإقليمية التي قام بها حزب العدالة والتنمية الحاكم لم تكن كلها موفقة، وتميز الكثير منها بالاندفاع والشطط. ويرى الكثيرون أن قرار أنقرة المراهنة على خيار الإسلام السياسي لم يكن موفقاً على الإطلاق، من منطلق أن الدولة الوطنية في تركيا ومنذ تأسيسها سنة 1923 قامت على دعائم وطنية وقومية جعلت قسماً كبيراً من المجتمع التركي يتمسك بهذه الدعائم إلى درجة التطرف والعنصرية اتجاه باقي المكوِنات الدينية والعرقية للدولة التركية. وبالتالي فإنه وبموازاة النجاح الكبير والمنقطع النظير الذي عرفته السياسة الخارجية التركية على مستوى العديد من دول المنطقة، لاسيما لدى جمهور وأنصار مشروع الإسلام السياسي، فإن حكومة أردوغان قد عرضت الوحدة الوطنية التركية والانسجام الداخلي للمجتمع، لمخاطر كبيرة؛ جعلت القوى العسكرية والأمنية للدولة تستنفد القسم الأكبر من طاقاتها وجهودها من أجل المحافظة على وحدة البلاد وحدودها الإقليمية التي أضحت مهددة على أكثر من صعيد، وذلك على الرغم من التماسك الذي ما زالت تبديه المؤسسات الأمنية للدولة على مستوى مواجهة كل هذه المستجدات والتحديات الداخلية الشائكة.
ويمكننا أن نفسر الهشاشة التي باتت تتميز بها الأوضاع الداخلية في تركيا، إلى مراهنة النظام السياسي الجديد منذ بداية الألفية الجديدة على توظيف أوراق إقليمية بالغة الخطورة تعتمد على المراهنة على «الدول الافتراضية» وعلى المجموعات العرقية في المنطقة، على حساب التعامل العقلاني مع الدول الوطنية ذات السيادة. وقد دفعها هذا الخيار المتناقض إلى دعم الأكراد في العراق على حساب وحدة الدولة المركزية في بغداد، وذلك بموازاة محاربتها للأكراد في سوريا وعلى مستوى الجبهة الداخلية، بدعوى وجود صلة قوية ما بين أكراد سوريا وحزب العمال الكردي في تركيا؛ متناسية أن كردستان العراق، التي تتعامل معها ككيان مستقل، ظلت تمثل لسنوات طويلة القاعدة الخلفية لحزب العمال التركي. وقد أثبت التجارب حتى الآن أن الأوراق التي وظفتها تركيا على المستوى الإقليمي لم تكن رابحة في مجملها، لأنها اعتمدت على العنصرين العرقي والإيديولوجي، المتمثلين في الأقليات التركمانية من جهة، والتنظيمات الإسلامية التي أثبت تاريخياً أن ولاءها الحقيقي يظل مرتبطاً، أولاً وقبل كل شيء، لإيديولوجيتها المتطرفة والشمولية، وليس للدول التي تدعمها من جهة أخرى. وفشلت حتى الآن كل هذه الأوراق التركية المبعثرة، في أن تأخذ في الحسبان الطبيعة المعقدة والفسيفسائية للمنطقة، التي تدفع مختلف الأطراف إلى تغيير تحالفاتها وولاءاتها، بحسب الظروف المستجدة واعتماداً على موازين القوى غير المستقرة التي تشبه الرمال المتحركة. ونستطيع أن نزعم بالتالي، أن من يسعى إلى لعب الشطرنج في رقعة من المستنقعات العائمة، يفقد الكثير من بيادقه ويضطر إلى مواصلة اللعب الخطر، باستعمال قطع مقلدة وبديلة لا تملك المواصفات الكاملة التي تمتلكها القطع الأصلية.
إن المؤشرات الجيوسياسية وعقارب السياسة الدولية، تؤكدان في مجملهما أن تركيا لا تستطيع أن تدخل في مواجهة مباشرة مع الروس في سوريا، سواء بدعم غربي أو من دونه، لأن ذلك يعني اندلاع حرب شاملة مدمرة لن تخدم أي طرف من الأطراف.
ربما تكون عائدات الحرب مجزية لمن يدعمونها ولكنها لن تكون مأمونة العواقب، ولن تستطيع تركيا أن تراهن لوحدها، في سياق هذه الظروف الإقليمية والدولية المعقدة والمتداخلة، على خيرات ونفط المناطق الكردية في العراق وسوريا دون توافق آخر، قد تجد نفسها مضطرة إلى إبرامه مع طهران القوة الإقليمية الأخرى المنافسة لها، لاسيما في مرحلة ما بعد الاتفاق النووي. وبخاصة في هذه المرحلة الانتقالية التي يبدو أن واشنطن لا تجد نفسها مضطرة، كما طالبها أردوغان، للاختيار ما بين تحالفها مع أنقرة وعلاقاتها المرحلية الراهنة مع أكراد سوريا، ويأتي كل ذلك في سياق تساؤلات كثيرة باتت تطرح حالياً، بشأن إمكانية حدوث توافق أمريكي روسي، قد لا يخدم المصالح والاستراتيجيات الإقليمية لتركيا.

لقد راهنت تركيا طيلة تاريخها المعاصر على الغرب، وقبلت أن تلعب دور البوابة الشرقية المتقدمة للحلف الأطلسي في مواجهة الاتحاد السوفييتي سابقاً وروسيا والصين حالياً، لكنها لم تستطع أن تجني حتى الآن كل الثمار المنتظرة من هذا التحالف، وما زالت تعايش بموازاة ذلك، هواجس ومخاوف محاصرة الروس لها في أكثر من منطقة من مناطق جغرافيتها السياسية والتاريخية من جورجيا وأرمينيا وصولاً إلى إيران والعراق. وما يزيد من خطورة الموقف التركي الراهن هو الحسابات السياسية الضيقة التي اعتمدها حزب العدالة والتنمية الحاكم، الذي نجح «نجاحاً باهراً» في بسط سلطته على أجهزة ومؤسسات الدولة التركية، لكنه أسهم في المقابل في إضعاف الجبهة الداخلية، واعتمد على سياسة خطرة مبنية على الثنائيات القطبية الخطرة، أولاً العرقية: الأتراك في مقابل الأكراد، ثانياً الدينية: السنة في مواجهة العلويين، ثالثاً السياسية: الإسلام السياسي ضد الكماليين (العلمانيين)، والقوميون الأتراك المتطرفون ضد اليساريين. وفتحت بذلك حكومة أردوغان باب حرب الهويات المتشظية على مصراعيه، في منطقة جغرافية ما زالت عاجزة حتى الآن عن تشكيل كيانات وطنية صلبة قادرة على ضمان ديمومتها السياسية، في مرحلة ما بعد سايكس - بيكو.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"