الاعتداء على الحرية الفردية إلى أين؟

05:30 صباحا
قراءة 3 دقائق

تثبت أوروبا يوماً بعد يوم حاجتها لنقد عقلها، وما ينتج عنه من تصرفات، من خارج نفسها، فأوروبا التي مارست النقد الذاتي من داخلها منذ القرن السادس عشر، بدءاً ببيكوني ومروراً بديكارت وشوبنهاور ونيتشه وبالكثيرين غيرهم، تحتاج بإلحاح إلى أن تذكر بأن فترة الادعاء بمركزية وكونية أفكار حداثتها يجب أن تصل إلى نهايتها المنطقية، وذلك بالقبول بأن أوروبا ليست العالم ولا قاضي قضاته، وبالنسبة لنا فإن ذلك يجب أن يشمل الموضوع قضية الاستشراق برمتها بعد ما دخل ساحاتها أوروبيون معتوهون موتورون من أمثال برنارد لويس الذي لا يفتح عينه إلا على مهاجمة الإسلام، ولكنه يغمضها بشدة وبانتهازية على جرائم اليهود الصهاينة في فلسطين المحتلة.

من هنا يجب النظر إلى الحادثتين المتناغمتين في ألمانيا وفرنسا، الأولى التي كان بطلها ألماني نازي عنصري والثانية التي كان بطلها رأس الدولة الفرنسية، الحادثتان ليستا عابرتين وهما في الأساس ترمزان إلى إشكالية عميقة في مشروع انوار وحداثة أوروبا. وهذا بالأخص ينطبق على ما جرى في فرنسا، ذلك بأن ما حدث في ألمانيا من قتل بشع حاقد لمروة الشربيني يمكن اعتباره حادثاً فردياً من قبل إنسان مجنون موبوء بالعنصرية وكراهية الأغراب.

لكن المشهد في فرنسا يختلف، والحديث عنه قبل بضعة أيام من احتفال الفرنسيين بالذكرى السنوية لثورتهم الهائلة الكبرى يجعل ذلك الاختلاف حاداً ويجعل الأمر كله جدياً، بل وخطراً، فكيف يستطيع رئيس دولة، وهو رمزياً يمثل الأمة كلها، أن يقف أمام أعضاء البرلمان ومجلس الشيوخ ليتحدث في موضوع يمس صلب مبادئ ثورة بلاده من جهة ويمس أسس الحداثة العلمانية الأوروبية من جهة أخرى؟ إنه موضوع الحرية الفردية.

الرئيس الفرنسي نسي أن الديمقراطية، التي حملتها ثورة بلاده إلى العالم، بنيت على وضع حدّ فاصل واضح بين الخاص والعام، والوقوف القانوني بحزم أمام أي محاولة لجعل حرية وذاتية الفرد خاضعتين للمجتمع طالما أن ممارسة تلك الحرية وتلك الفردانية لا تمس حرية الآخرين ولا ترتكب خطأ بحق سلامة وأمن المجتمع. من هنا فإن موقف الرئيس الفرنسي من المسلمات الفرنسيات، المواطنات في الأرض الفرنسية، المنقبات، يتعارض كلياً مع مبدأي فصل الخاص عن العام من جهة وممارسة الحرية والفردانية التي لا تعتدي على أي قانون عام من جهة أخرى. فمثلما أن العري، وكثيراً ما يكون فاضحاً مبتذلاً، هو حق للفرنسيات فإن الحجاب وتغطية الجسد، وفي أكثره محتشم، حق للفرنسيات أيضاً.

وتزداد الصورة قتامة عندما يتقرر تكوين لجنة على أعلى المستويات للنظر فيما إذا كان النقاب هو نتيجة إكراه للمرأة الفرنسية التي تلبسه أم هو نتيجة ممارسة لحريتها واختيارها، وهذا موقف يثير الضحك.

إذا لماذا تهتم الدولة بمعرفة الضغوط التي يمكن ان تمارس على المرأة الفرنسية المسلمة بشأن لباسها، ولا تهتم الدولة مثلاً بالضغوط التي تمارس على مئات الألوف من البغايا الفرنسيات اللواتي يرغمن على مزاولة البغاء بالتهديد والإغراء والوعيد من قبل مافيات فرنسية ودولية معروفة لدى الجميع؟ أن يرغم أحد، هذا إن وجد الإرغام في الأصل، على العفاف فهذا مرفوض، أما أن يرغم على الرذيلة فهذا مقبول!

الواقع أن الموضوع برمته محير، فالمنطق يشير إلى أن موقف الرئيس والنواب والشيوخ مخالف لمبادئ الحرية والمساواة والأخوة التي رفعتها الثورة الفرنسية، وهو مخالف أيضاً لقضية العدالة وفضيلة التسامح، وهو ينسف فكرة المواطنة. ومع ذلك تنشغل الدولة الفرنسية به المرة تلو المرة. إنه موضوع غطاء الرأس من قبل والنقاب في اللحظة الحاضرة، ولا نعرف ما الذي سيأتي به المستقبل؟

ولكننا لا نستطيع إلا أن نعتبره موضوعاً يرمز بالفعل إلى خلل في الممارسة الأوروبية لحداثتها. وهو يضاف إلى إخوان له من قبل من مثل ممارسة الاستعمار من قبل حداثة تنادي بالحرية وممارسة الاستغلال الاقتصادي من قبل حداثة تنادي بالعدالة والمساواة والأخوة وممارسة النازية والفاشستية من قبل حداثة تنادي بالديمقراطية.

أوروبا بدأت تفقد روحها، بعد أن فقدت مبادئها وعقلها، وهي بالتالي تحتاج إلى من يذكرها بذلك قبل فوات الأوان وأن علمانيتها أصبحت صنماً وليس إلهاً.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"