البيت الأبيض وحائط المبكى

02:16 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. مصطفى الفقي

أريد من هذا العنوان أن أبحث في مضمون العلاقة «الإسرائيلية» الأمريكية، ولأن «إسرائيل» كيان قام على أساس دعاوى دينية فقد رمزنا إليها بحائط المبكى، ولأن الولايات المتحدة تمثل القوة الأكبر والأكثر ثراءً فقد رمزنا لها بمقر رئيسها ونعني به البيت الأبيض، والواقع أن «إسرائيل» لم تعدم وسيلة منذ بدايات الحركة الصهيونية في أن تجد لها حليفاً قوياً، ولقد حاول الصهاينة الأوائل من البداية مع نابليون بونابرت ومع السطان العثماني إلى أن وجدوا ضالتهم في الحليف البريطاني الذي أهداهم وعد بلفور عام 1917 وهو ذلك الوعد الذي نطلق عليه «وعد من لا يملك لمن لا يستحق»، وظلت الشراكة البريطانية بيهود فلسطين قوية ومتنامية إلى أن رفعت بريطانيا إعلانها بإنهاء الانتداب على نحو أدى إلى قيام دولة «إسرائيل» بعد رفض العرب لقرار التقسيم، وفي مطلع الخمسينات انتقلت الرعاية البريطانية تلقائياً لتصبح رعاية فرنسية للدولة العبرية، ومصدر ذلك هو شعور «إسرائيل» بالحاجة إلى حليف أوروبي قوي، ووجدت هذه المرة «إسرائيل» ضالتها في جمهورية فرنسا التي دعمت المشروع «الإسرائيلي» النووي، وأنشأت معها مفاعل ديمونة الذري، لقد كانت المشاركة الفرنسية ل«إسرائيل» في تلك الفترة هي محاولة أيضاً لتأديب عبد الناصر الذي كان يساند بقوة ثورة التحرير الجزائرية، فضلاً عن التوتر الذي كان يسود العلاقات بين عبد الناصر والقوى الكبرى حينذاك. ولكن التطلع «الإسرائيلي» من حائط المبكى كان يرنو مباشرة للوصول إلى البيت الأبيض، بل والأمل في السيطرة عليه؛ لأنه مركز الثقل العالمي، ومقر رئيس الولايات المتحدة، ولقد اقتربت الدولتان بصورة تجاوزت الأنماط التقليدية للعلاقات الدولية المعاصرة، وسوف نبسط الآن ما قدمناه من خلال المحاور الخمسة الآتية:
* أولاً: لقد قامت الحركة الصهيونية بجهود معروفة تاريخياً قبل مؤتمر بازل الذي تزعمه واحد من كبار آباء الحركة وهو تيودور هيرتزل عام 1897، فقد سعى زعماء الحركة إلى البلاط العثماني بعد أن فاتحوا نابليون بونابرت في أوج مكانته، ولكنهم لم يجدوا آذاناً صاغية، خصوصاً أن السلطان العثماني كان قد وصل إلى مرحلة لا يستطيع فيها أن يتخذ قراراً بهذا الحجم، حيث كانت تركيا هي رجل أوروبا المريض، ومع ذلك حاولت الحركة الصهيونية استغلال الحرب العالمية الأولى، حتى اعتبرهم الألمان سبب هزيمتهم، وهو الأمر الذي دعا هتلر إلى أن يشن عليهم حملات انتقامية تحت شعارات النازية.
* ثانياً: لا شك أن التوافق الثقافي والفكري بين المجتمع اليهودي المتقدم في أوروبا وأمريكا على ضفتي الأطلسي كان له تأثيره في خلق تأييد عام وتعاطف شديد مع اليهود، خصوصاً مع الحديث المتكرر عن (الهولوكوست)، ومعاناتهم في الحرب العالمية الثانية؛ لذلك اتجه اليهود إلى الدول الأوروبية يطلبون أرضاً ووطناً، بل وتعويضات مادية، حيث ظلت ألمانيا تدفعها حتى سنوات قليلة مضت.
* ثالثاً: وجدت «إسرائيل» في المملكة المتحدة صاحبة الانتداب على فلسطين ما يمكن أن يحقق لها المستقبل الذي تسعى إليه بالهيمنة على المنطقة، بعد صدور قرار التقسيم، وخضوع المنطقة لسلسلة متصلة من التآمر ضد العرب، وهو الأمر الذي بلغ ذروته فيما يسمى بنكبة عام 1948، بحيث قام البريطانيون بتمكين اليهود من أرض الميعاد كما يقولون.
* رابعاً: لا شك أن فرنسا قد لعبت دوراً قوياً في دعم الدولة اليهودية الوليدة، من خلال تسليح جيشها، وبناء ترسانتها النووية في سنوات مبكرة من منتصف خمسينات القرن الماضي، كما شاركت فرنسا في مؤامرة حرب السويس، كعضو فاعل في تحالف العدوان الثلاثي ضد مصر والمد الناصري المنطلق من القاهرة، عندئذ أدرك اليهود بخبرتهم الطويلة أن عليهم أن يبحثوا عن حليف قوي يستمر في حمايتهم وضمان أمنهم. ولما كان أكبر تجمع يهودي في العالم يعيش في مدينة نيويورك الأمريكية كان من الطبيعي أن تسعى حكومة «إسرائيل» إلى طلب ضمانات طويلة المدى وذات طابع استراتيجي من الولايات المتحدة وذلك ما حدث، فتحقق لها ما لم تكن تحلم به، وهو أمر وصل ذروته في يونيو/حزيران عام 1967.
*خامساً: لقد تمكن اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة من ترتيب الأوضاع، حتى ظهرت مجموعة «الأيباك»؛ لكي تكون منبراً ليهود العالم في دعمهم ل«إسرائيل»، وبدا للجميع أن الجهود الصهيونية الطويلة قد بدأت تؤتي أكلها، وتعطي «إسرائيل» نجاحات مستمرة، ربما لا بسبب براعتهم وحدها، ولكن بسبب إخفاق خصومها، وتشرذم العرب وانقسامهم، وضعف سياساتهم دولياً وإقليمياً، ورغم أن حرب عام 1973 قد ردت الاعتبار نسبياً للعرب، فإن صورتهم ظلت متراجعة في الذهن الغربي على نحو جعل العلاقات بين الولايات المتحدة و«إسرائيل» في تنامٍ مستمر وتصاعد واضح.
لذلك كله حق لنا أن نقول إن العلاقات بين حائط المبكى والبيت الأبيض هي تاريخ وقدر ومصير للطرفين معاً منذ البداية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"