التدخين بين الإيرادات والحفاظ على الصحة

00:17 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. لويس حبيقة

هنالك إجماع عالمي حول الأثر السلبي للتدخين في حياة الإنسان. 80% من مدخني العالم يعيشون في الدول الناشئة والنامية مما يؤثر سلباً في إنتاجية المواطن والعامل والنمو المستقبلي ويرفع الفاتورة الصحية. محاربة التدخين تدخل ضمن السياسات الهادفة للتنمية وبالتالي تتطلب دعماً سياسياً قوياً لحسن التنفيذ وتقوية النتائج الإيجابية. تلجأ الدول إلى وضع ضرائب على استهلاك الدخان للتخفيف من استهلاكه وبالتالي من ضرره على حياة المواطن. تساهم الضرائب في تحصيل إيرادات كبيرة لأن مرونة استهلاك التدخين ضعيفة. هذا يعني أن ارتفاع أسعار علبة الدخان يخفض الاستهلاك بنسبة أقل من ارتفاع السعر بسبب تعلق المواطن بالسلعة أو ما يعرف بالإدمان. دول عدة وضعت ضرائب على استهلاك الدخان والمشروبات على أنواعها لتخفيف استهلاكها من جهة ولجلب الإيرادات للدولة من جهة أخرى. في 2014، وضعت التشيلي مثل هذه الضرائب التي تعتبر تناقصية لأنها تؤثر أكثر في الطبقات الوسطى وما دون. في الحقيقة حصة استهلاك الدخان من الدخل هي أعلى في ميزانيات الطبقات الوسطى وما دون التي تتعلق بالدخان أكثر بكثير من الطبقات الميسورة. بالرغم من أن الاقتصاديين يفضلون الضرائب التصاعدية على الضرائب التناقصية، إلا أن الضرائب على الدخان والممنوعات عموماً لها شعبية كبيرة في المجتمع الاقتصادي لتأثيرها القوي في الصحة والنمو. لا يمكن رفع الضريبة على التدخين إلى حدود مرتفعة لأن ذلك يشجع المجرمين على تنشيط السوق السوداء تماماً كما يحصل مع الممنوعات الأخرى. فالسوق السوداء تسوق السلع المضرة وبالتالي تأثيرها السلبي كبير في صحة المواطن وفي إيرادات وسلطة الدولة. مع وضع ضريبة على الدخان، يجب أن تقوم الدول بمحاربة السوق السوداء ومصادرة السلع المهربة تماماً كما فعلت تركيا وبنجاح في العقد الماضي.
كيف تؤثر الضريبة في الدخان ضمن حياة الأفراد والأسر؟
أولاً: سيخف الاستهلاك حكماً ولو قليلاً وبالتالي تخفف الضريبة الكثير من الألم على صدر المواطن وتنفسه ورئتيه. تخفف الضريبة الاستهلاك وترفع الإيرادات لكن تأثيرها التناقصي عبر الدخل غير عادل بالرغم من الإيجابيات الكبيرة طويلة الأمد.
ثانياً: تساهم الضريبة في تخفيف الإنفاق على الصحة من طبابة واستشفاء وأدوية وعلاجات وغيرها أي تساهم في تخفيف حجم الفاتورة الصحية الكبيرة جداً للأمراض المرتبطة بالتدخين. في الوقت الذي تسعى خلاله الدول جميعاً لترشيد الإنفاق، تأتي الضريبة على الدخان لتساهم إيجاباً في حالتي الإيرادات والإنفاق وهذا ممتاز.
ثالثاً: تحقق الضريبة إيرادات مباشرة للدولة. نضيف إليها أن عمر الإنسان يطول وبالتالي سنوات العمل تطول. عندما تتحسن صحة المواطن، يرتفع بالتالي التحصيل طويل الأمد للإيرادات الضرائبية مع الوقت. نوعية الحياة مهمة جداً وربما أهم من عدد سنوات العمر وبالتالي الصحة مهمة جداً اقتصادياً ومعنوياً ونفسياً.
بفضل هذه الضرائب وكما تشير إليه التجربة الأوكرانية، انخفض استهلاك الدخان محلياً وعالمياً. تتحقق فوائد هذه الضرائب أكثر على المدى الطويل حيث لا تكون الإيرادات المالية هي النتيجة الأساسية لها، بل التأثير الإيجابي الكبير في الصحة والإنتاجية وسنوات العمل والعمر المرتقب. هذا يعني أن الطبقات الوسطى وما دون تستفيد كثيراً على المدى الطويل من الضريبة، وإن تضرر دخلها نسبياً أكثر على المدى القصير. في التشيلي التي قام البنك الدولي بدراسات معمقة حولها، انخفض عدد المدخنين من 43.6% من المواطنين الراشدين في سنة 1992 إلى 34.7% اليوم. التأثير في الموازنة كان كبيراً جداً كما التأثير في ميزانيات الأسر التي انتقلت إلى الإنفاق على الإيجابيات كالتعليم والتدريب. هل كانت الضريبة وحدها السبب الأول في انخفاض التدخين عالمياً؟ حكماً لا إذ إن الأسباب متعددة وأهمها:
أولاً: الوعي الشعبي العالمي لمساوئ وضرر التدخين حيث يتعلم الطفل منذ صغره ضرورة تجنب استهلاك هذه المادة أو أقله عدم الإدمان عليها. تقوم المدارس بتفسير التأثير المتنوع لاستهلاك التبغ على الأفراد والمجتمعات.
ثانياً: هنالك الإعلام والإعلان لمساوئ التدخين حيث يمنع تسويق سلع الدخان عبر الإعلانات خاصة في الوسائل التي تطال كل المواطنين وخاصة الصغار. في دول عدة، يمنع إعلان الدخان في التلفزيونات التي تصل إلى كل غرف المنزل وفي كل الأوقات. من الأفضل للأهل المدخنين عدم التدخين أمام الأطفال والصغار.
ثالثاً: هنالك إعلان كبير وقوي خطي على السلع الدخانية للمساوئ الصحية الخطيرة والمميتة. هنالك تحذير بل تنبيه للمواطن بعدم استهلاك علبة الدخان عندما يشتريها من السوق.
رابعاً: هنالك أماكن محجوزة للمدخنين في المطارات والمطاعم وفي العديد من المؤسسات الرسمية، هذا إذا لم يمنع كلياً. يشعر المدخن أنه يقوم بعمل خاطئ أو مختلف أو سلبي بحيث تحتجز حريته لدقائق منعاً لتأثير الدخان الثانوي في المواطن الذي يتنشق ويتضرر دون أن يدخن مباشرة أو دون أن يقوم بأي ذنب.
خامساً: سياسات تخفيف التدخين المباشرة أو المنع المباشر في بعض المدن لا يكفي لتحقيق انتصار نهائي وكلي على هذه الآفة. يجب السعي إلى تغيير طلب المواطن أو نفسيته بحيث لا يطلبها وهذا ممكن ومجرب. يمكن لهذه السياسات أن ترفع من مستوى المرونة بحيث تؤثر الضريبة أكثر بكثير في الكميات المستهلكة وبالتالي تحمي حياة المواطن.
أخيراً، لا بد من معالجة التجربة التركية الفريدة حيث وضعت الضرائب على الدخان وساهمت في تخفيف الاستهلاك الذي عاد وارتفع مجدداً من 25.4% من المواطنين في سنة 2010 إلى 23.2% في سنة 2012 وثم 27.3% في سنة 2014. نسبة المدخنين عند الرجال 3 أضعاف النسبة عند النساء لكن التطور كان في الاتجاهات نفسها. أعلى نسبة عند المدخنين هي في أعمار من 25 سنة إلى 44 عند الجنسين ربما بسبب الضغط المادي والمعنوي وتحديات الحياة والعائلة وأسواق العمل. ما هي الأسباب الأخرى للارتفاع؟
أولاً: وجود عدد كبير من النازحين بسبب الأزمة السورية والأزمات المتعددة في المنطقة والذين يدخنون. هذا العامل مؤثر لكنه لا يفسر الأرقام المذكورة.
ثانياً: ارتفعت أسعار علب الدخان أقل من ارتفاع نسب التضخم أي انخفضت أسعار الدخان بالعملة الحقيقية.
ثالثاً: بسبب النمو الذي تحقق في تركيا خلال العقد الأخير أي حوالي 3% سنوياً، أصبح المواطن قادراً أكثر على شراء الدخان وغيره من السلع المفيدة والمضرة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"