التركيز على الأمراض بدلاً من العوارض

05:15 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. علي محمد فخرو
الأحداث الكبيرة والمآسي المفجعة التي تجتاح المجتمعات العربية منذ بضع سنين لا يمكن إلا أن تؤدي إلى ضعف التركيز والتشتُت في ذهنية الإنسان العربي . فهو يجد نفسه منشغلاً بأهوال من مثل الممارسات غير العقلانية لما يسمى بدولة «الخلافة الإسلامية في العراق وسوريا»، أو من مثل البربرية التي تتفنن في ممارستها شتى الجماعات التكفيرية العنفية في كثير من بقاع الوطن العربي، أو التحسُر على خراب ودمار أبهى المدن العربية التي كانت عبر القرون رمزاً للعمران والتحضُر، أو من مثل الحقارات التي تمارسها السلطة الصهيونية بحق الشعب العربي الفلسطيني والتدخلات الاستعمارية التي تستبيح استقلال وثروات الوطن العربي.
لكن كل تلك الأهوال والفواجع المتنامية ليست إلا عوارض لأمراض خطرة متجذرة في الكيان العربي. ولذلك فالانشغال اليومي بتحليل تلك العوارض والاختلاف حول تفاصيلها والتعبير عن الغضب الشديد تجاه إسقامها لأمة العرب المنكوبة يؤدي، كما قلنا، إلى التشتت في الذهن، أولاً بسبب الانتقال اليومي من موضوع عارض إلى موضوع عارض آخر، وثانياً بسبب الانشغال الشديد عن تسمية الأمراض المسببة للعوارض وعلاجاتها المطلوبة.
ما يحدث في أرض العرب في هذه المرحلة التاريخية الحرجة هي عوارض لواحد من ثلاثة أمراض مستعصية.
أولاً، هناك مرض التمزق السياسي الإقليمي القومي العربي، متمثلاً في سقم وقلة حيلة وتخبط الجامعة العربية وتهميشها شبه التام من قبل القوى الخارجية من جهة وأيضاً من قبل الصراعات والمماحكات العبثية بين أنظمة الحكم العربية من جهة أخرى. تجري يومياً مداولات واجتماعات، وتتخذ قرارات مصيرية، بشأن الأوضاع في سوريا وليبيا واليمن والعراق والإرهاب الدولي وتعقيدات ظاهرة هجرة الملايين من العرب إلى الخارج غير المرحُب بها أو المعادي لها، لكن الإنسان العربي لا يسمع جملة واحدة مفيدة عن رأي الجامعة العربية أو الدور الفاعل الذي تلعبه. إن تهميش الجامعة العربية أصبح كارثة ومرضاً له أعراضه الكثيرة.
هذا الغياب الفضيحة للتضامن القومي العربي، بحدوده الدنيا، سواء على مستوى الجامعة العربية الرسمي، أو على مستوى التنسيق والعمل المشترك فيما بين قوى المجتمع المدني العربي النضالية، هو المرض الذي سمح لقوى الخارج ولقوى الإقليم وللكيان الصهيوني في أن يحيلوا الأرض العربية إلى خراب وبكائية حقيرة.
ثانياً، هناك الإصرار المرضي التاريخي عند سلطات الدولة العربية الوطنية، إلا من رحم ربي، على ابتلاع مجتمعاتها ومنعها من ممارسة دور ديموقراطي ذاتي وتشاركي في مواجهة تلك الأهوال. بينما يسمح لأية قوى مجتمعية انتهازية أو فاسدة أو ثرثارة مظهرية لأن تتواجد في الساحات السياسية أو التشريعية أو الإعلامية طالما أنها تتصرف كتابعة أو منافقة أو سلبية أو متعايشة مع الجحيم الذي يحياه العرب.
ثالثاً، هناك المرض المستفحل المزمن المتمثل في التخلف الثقافي العربي الذي له تأثيراته البالغة على ما يجري حالياً في الأرض العربية. وبالطبع هذا موضوع مترامي الأطراف، وما يهمنا هو الإشارة إلى الجزء المتعلق بجحيم الجهاد التكفيري المتوحش الذي تعيشه الأمة حالياً.
ذلك أن المنطلقات الفكرية لظاهرة الجهاد تلك، والقدرة الهائلة التي تملكها لإقناع وتجييش الألوف من الشباب، تعتمد على ثقافة فقهية امتلأت عبر القرون بأفكار وأقوال بالغة التزمت والتخلف، الأمر الذي يجعلها غير صالحة لهذا العصر، وبالتالي بحاجة إلى تنقيح وإعادة نظر.
فإذا أضيف إلى ذلك ما لحق بحقل الحديث من دس وإضافات لأسباب سياسية أو لإيجاد تبريرات لتصرفات هذا أو ذاك أو لترجيح كفة هذا المذهب أو ذاك، فإننا أمام مهمة ثقافية كبيرة لمراجعة علوم الأحاديث النبوية من جهة وعلوم الفقه من جهة أخرى، وتنقيحها من الغث الذي يجعلها قابلة للاستعمال السيئ والانتهازي واللاعقلاني من قبل شتى فرق الجهاد التكفيري.
المطلوب من تلك المراجعة هو العودة إلى القرآن بعد أن غيب وأبعد، لأسباب كثيرة، عن مسرح الحياة الدينية عبر القرون. عودة القرآن، كميزان ومرجعية وحكم، ستظهر كماً هائلاً من التلفيق والأخطاء التي لحقت بالتراث العربي الإسلامي.
المطلوب أيضاً هو إرجاع الوهج لاستعمال العقل والمناهج العقلانية إلى ساحة الثقافة الإسلامية بعد أن نجح المتزمتون والمتخلفون عبر القرون في إبعادهما عن مسرح الفهم الديني.
والمطلوب أخيراً هو إيجاد فصل تام وواضح بين ممارسة الطائفية المتزمتة المنغلقة وبين سماحة التعددية في الاجتهاد وفي قراءة مقاصد الدين الكبرى.
مراجعة الجزء الديني من الثقافة العربية، سيكون مدخلاً كبيراً ومفصلياً لمراجعة الثقافة العربية برمتها وتصحيح ما علق بها من تشويهات عبر الحقب التاريخية الطويلة.
باختصار، إن ما يشاهده الإنسان العربي يومياً من أحداث مفجعة جسام لا تخرج عن أن تكون عارضاً من عوارض الأمراض الثلاث التي تفتك بالجسم العربي في مرحلتنا التاريخية الحاضرة. الخروج من أي أمراض هو بمعالجتها وإزالة أسبابها، وليس بمعالجة أعراضها.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"