التسويات المغشوشة لا تدوم

02:40 صباحا
قراءة 3 دقائق
عبد الإله بلقزيز

أسوأ أنواع التسوية السياسية لأي حرب أو صراع مسلح هي (التسوية) القائمة على إجحاف بيِّن في توزيع الحقوق بين فريقيها، على نحو يحصل فيه الواحد منهما على الجوهري الكثير، فيما لا يبقى للثاني غير الشكليّ القليل. وقد يقال إن مثل هذا النوع من التسوية مألوف وعاديّ في حال الاتفاقات التي تبرم، في العادة، بين منتصر ومهزوم فلا تكون حصة أي منهما من ثمار السياسة إلا ما ازدرعتْهُ معطيات الميدان العسكري. كما قد يقال إن مثل هذه التسوية يقع في الحالات التي لا يكون التوازن العسكري في الميدان مختلاً فقط، بل حين يبلغ الاختلال ميدان التفاوض السياسي نفسه فيبْرم اتفاق بين مفاوض ذي كفاءة واقتدار، متمكّن من ملفاته ومن تقنيات الضغط والمساومة، ومفاوض ضعيف الخبرة، غير ذي إلمام بأصول التفاوض وأساليبه، ولا حريص على الاستفادة من موارد القوة السياسية والقانونية التي لديه بعضٌ- كثيرٌ، أو قليل - من أوراقها.
وما من شكٍّ في أن التسوية المغشوشة مأتاها من هذين الطريقين: من طريق الهزيمة العسكرية التي يحصدها فريق فيها، فيكون حصاد التسوية الشحيح لديه على مقاس بيْدر الميدان، ولا يملك فيها المهزوم أن يطالب بما لم يقوَ على انتزاعه بالقتال؛ ومن طريق ضعف الجهاز التفاوضي وهشاشة أدائه السياسي، إلى الحد الذي يتولد منه العجز عن تسخير ما لديه من موارد سياسية يعوِّض بها، أثناء التّفاوض، عن تبدّد موارده القتاليّة. ومع ذلك، لا يكفي أن يُستَضعف المهزوم في الميدان، ويُؤتَى به صاغراً إلى مائدة التّفاوض، لكي تخرج من ذلك تسوية إذعان، أو استسلام، ولا أن يُستغفَل مفاوضٌ ضعيف وتُبَدّد أوراقه السياسية في المفاوضات لتخرج من ذلك تسوية مجحفة، فقد تكون خسارات الفريقين المتفاوضين في الحرب متكافئة، ومكاسبهما فيها متقاربة، بحيث لا يُسفر القتال عن غالب ومغلوب، بالمعنى الاستراتيجي، ومع ذلك يعجز أحد الفريقين المتفاوضَين عن أن يترجم في السياسة ما أخذه في الميدان، بل هو قد يبدد بالسياسة المكاسب المادية التي انتزعتها قوته بالقتال، لتكون النتيجة إبرام تسوية مجحفة.
وقد شهد العالم المعاصر على الكثير من اتفاقات التسوية و«السلام» التي أضاع فيها المتفاوضون، ومَن وراءهم من قيادة سياسية، مكاسب الميدان وانتصارات الجيوش، فانتهوا إلى النزول عند إملاءات العدو والخضوع لشروطه من غير أن يكون - هو - قد انتزعها عسكرياً.
الأمثلة على هذه الحالات الثلاث وفيرة في تاريخ التسويات السياسية للمنازعات في العالم الحديث والمعاصر. وهي بقدر ما تُطلعنا على التلازم بين سقوف التسويات أو تخومها ومديات الحروب ونتائجها، أي على القاعدة التي تقرر أن المفاوضين لا يحصدون في المفاوضات، وما ينجم منها من اتفاقات، أكثر مما تحققه جيوشهم في ميدان القتال من نتائج، فهي تُطلعنا - في الوقت عينه - على حقيقة أن التفاوض لا يجري متوسلاً أوراقَه ومواردَه العسكرية والميدانية فحسب، بل يتوسّل غيرَها من موارد سياسية وقانونية تكون، في واقع الأشياء، خط الدفاع الأخير لدى المفاوض عن حقوق بلده ووطنه. وهذه جميعها قرائن على أن التفاوض، في حقيقة أمره، استمرار للقتال، ولكن بأدوات أخرى غير عسكرية (سياسية، قانونية، سيكولوجية، اقتصادية...)، وأن من يوكَل إليهم أمره تُفتَرَض فيهم الأهلية والاقتدار على الأداء، لأنهم نُظراء في المعركة للضباط والقيادات العسكرية والجنود، ومؤتمنون على تضحياتهم ائتمانَهم على حقوق الشعب والدولة اللذين يتفاوضون باسمهما ونيابةً عنهما لتحصيل حقوق انتُزعت بالسلاح، أو يمكن انتزاعها بالسياسة والقانون.
وبعيداً من مسؤولية المفاوضين الذين يسيئون التفاوض ويهدرون المكتسبات، ثمة مسؤوليّة أخرى لا تقِلّ سوءاً عن مسؤولية هؤلاء، لأنها تحوّل التسويات إلى ألغام سياسية موقوتة تقبل الانفجار عند تأزم العلاقة بين مَن أبرمها. المسؤولية هذه، التي نعني، هي مسؤولية المفاوض الذي يُمْعن في فرض شروط الإذعان والمذلة والاستسلام على خصمه، في التفاوض، مستثمراً نجاحات جيشه العسكرية، أو مستغلاً الضَّعف السياسي لخصمه التفاوضي أو حاجة الأخير إلى اتّفاق سياسي ولو على حساب حقوقه. وكثيراً ما لا يفطن المفاوِض، المدفوع بنشوة النصر أو بالرغبة في إذلال العدو إذلالاً سياسيّا، إلى أنه باندفاعه الغريزي هذا لا يُثبّت مكاسبَ محصَّلة في وثيقة التسوية، وينتزع لنفسه الاعتراف له بها، بمقدار ما يضع الحجر الأساس لحرب أخرى قادمة تعيد النظر في انتصاره، وما حصدهُ من نتائجَ سياسية من ذلك الانتصار. وبيان ذلك أن التسويات المغشوشة، أي التي لا تتوزع بها حقوق المتنازعين توزيعاً متوازناً، هي أشبه ما تكون بهدنة عسكرية بين المتحاربين؛ تسوية غير مضمونة وإن كان صكّها مملوءاً بالضمانات والالتزامات؛ إذِ التسويات - شأن القوانين - قابلة للانتهاك والتمزيق إذا اقتضت ذلك المصالح. وما أكثر التسويات المغشوشة التي انقضى مفعولها ومُزقت، فكانت سببا لتجدد الحروب.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"