التوتر التركي - الكردي من منظور تحولات المنطقة

04:43 صباحا
قراءة 4 دقائق

منذ الإطاحة بالنظام العراقي السابق وإقليم كردستان في الشمال ينعم نسبياً بقدر من الاستقرار، مقارنة ببقية المناطق العراقية . تقاسم الحكم والموارد بين حزبي الطالباني والبرازاني، والانتعاش الاقتصادي ممثلاً بفرص الاستثمار، وغياب تنظيمات مسلحة تابعة للمقاومة العراقية أو لتنظيم القاعدة، كل ذلك وفر فرصة للاستقرار السياسي والاقتصادي النسبي . غير أن مشكلة ظلت عالقة تتصل بالغارات التركية (وبدرجة أقل بغارات إيرانية) على مواقع في الشمال تقول أنقرة إنها تؤوي وتضم مقاتلين لحزب العمال الكردستاني الذي ينشط على الأراضي التركية .

منذ السابع عشر من أغسطس/آب الجاري تتوالى الغارات الجوية التركية وذلك عقب عملية قام بها حزب العمال في الداخل التركي اودت بثلاثة جنود أتراك . المباحثات المديدة التي جرت بين بغداد وأنقرة وكذلك بين البرازاني رئيس الإقليم الكردي مع مسؤولين أتراك، لم تضع حداً نهائياً لهذه المسألة التي ما أن تهدأ حتى تعاود الانفجار .

يحدث ذلك فيما ينشغل مسؤولون أتراك بالوضع في ليبيا، حيث واصلوا منذ أسابيع توطيد علاقاتهم بالمجلس الانتقالي، وفي الأيام الأخيرة أخذوا يلحون على الأمم المتحدة للإفراج عن الأرصدة الليبية المجمدة . تنشغل أنقرة كذلك بالأزمة السورية في الجوار، وتحتفظ حتى كتابة المقال بعلاقات مع الحكم والمعارضة السورية، لكن هذه الانشغالات الإقليمية لا تمنع أنقرة من إبقاء الملف الكردي مفتوحاً، وكذلك الأمر مع حزب العمال الذي تختلط دعاواه السلمية المتكررة بممارسات مسلحة موسمية ضد الجيش التركي .

بغداد احتجت رسمياً على الغارات واستدعت السفير التركي إلى الخارجية العراقية الخميس الماضي وأبلغته احتجاجاً رسمياً . ولا ريب ان الدبلوماسية التركية لديها ما تقوله في هذا الشأن، عما تعتبره ملاذات آمنة، وحتى معسكرات تدريب لحزب العمال في شمال البلاد .

هذه التطورات وإن كانت معهودة من الطرفين، إلا أنها في سياق التوتر الحالي الذي تشهده المنطقة تبدو من قبيل خلط الأوراق . ففيما تشارك قوى كردية عديدة في الاحتجاجات السورية وينشط ممثلون لها في اجتماعات المعارضة في الخارج، فإن إقليم كردستان العراق يتخذ موقفاً أقرب إلى الحياد حتى تاريخه، بينما تبدو الحكومة العراقية برئاسة نوري المالكي أكثر قرباً من دمشق . فإذا ما تصاعد توتر عراقي - تركي في هذه الآونة، فإن الورقة التركية تكون قابلة للاستخدام في وضع يتسم بالسيولة الاستراتيجية، وكما هو الحال على سبيل المثال في مثلث غزة ايلات - سيناء حيث تنشط تل ابيب لمحاولة الحد من تغيير قواعد اللعبة هناك، والتي توفر فرصة التحكم بكل شيء، مع ما يعنيه ذلك من منع أية تفاعلات مصرية قد تقود لتغيير هذه القواعد .

ليس هناك بالطبع علاقة بين الأمرين، فالمقصود هنا هو التأشير لما يُقدم عليه اللاعبون الإقليميون في هذه المرحلة من استثمار للتغيرات، واستباق للتحولات والسعي للتأثير فيها . وبالنسبة للموضوع الكردي تحديداً، فقد تقدم حزب العدالة والتنمية على غيره من القوى القومية الطورانية والأحزاب التي حكمت تركيا طيلة القرن الماضي، بالاعتراف بحقوق ثقافية للأكراد، وأتاح لهم فرص العمل السياسي . . لكن بالطبع كمواطنين أتراك لا كأقلية قومية . وقد أقبل أكراد كُثر على العملية السياسية الحزبية والانتخابية، وشاركوا بها عبر الجمع الواقعي وغير المعلن بين الهويتين الكردية والتركية، وكذلك من دون أي اعتراف أو تفاوض من طرف أنقرة مع حزب العمال الذي ينظر اليه كمجموعة إرهابية متمردة خارجة على القانون . أما الحزب نفسه فرغم طروحاته السلمية المتعاقبة (التي كثيراً ما انبرى مؤسسه عبدالله أوجلان من مُعتقله للتبشير بها) إلا أن الحزب احتفظ ببنيته المسلحة وتشكيلاته العسكرية وبطروحاته كممثل للأكراد في تركيا (نحو 15 مليون نسمة) وكساعٍ إلى إقامة حكم ذاتي للأكراد في جنوب شرق تركيا .

من هنا وبالنفي المتبادل بين الطرفين، وبالاحتكام إلى السلاح تدوم هذه المشكلة منذ 28 عاماً، وتتغذى أحياناً من عوامل خارجية وإقليمية، وقد منحت الإطاحة بالنظام العراقي السابق دفعة كبيرة للمطامح الكردية القومية . على أن إقليم كردستان العراق يبدو عاجزاً عن التحكم بحزب العمال الذي يخوض حرب عصابات متقطعة عبر الجبال والمناطق الوعرة على الحدود بين العراق وتركيا، وغير راغب في الوقت نفسه بإغلاق الأبواب كلياً في وجه عناصر الحزب، وممثليه لأسباب قومية .

هذه الحسابات المتعارضة تشكل معا مأزقاً وجودياً لإقليم كردستان، الذي يستقوي زعماؤه في هذه الحالة بالحكومة المركزية في بغداد، جنباً إلى جنب مع تمسكه بمكاسبه كإقليم يتمتع بحكم ذاتي موسع، فيما يطلق خطاباً سياسياً يأخذ فيه على دول الجوار وبالذات تركيا وإيران، ممارسة التدخلات في الشؤون الداخلية والمساس بالسيادة،وهو خطاب يلقى هوى في نفوس كثرة كاثرة من العراقيين .ولا شك أنه خطاب لا تنقصه البراعة في اللعب على التناقضات، وربما كان من حق طرف ضعيف مقارنةً بقوى كبيرة تحِفّ به، أن يمارس هذه اللعبة ويحسن الإفادة من التحولات .غير أن ذلك لا يتم من دون دفع ثمن يدفعه الأكراد وكذلك الأتراك راهناً ومستقبلاً . والأسلم من ذلك على المدى البعيد أن يسعى اقليم كردستان لإبرام تسوية مع حزب العدالة والتنمية تُحرم اللجوء إلى العنف في جميع الحالات، مع ما يقتضيه ذلك من الإقدام على بعض التنازلات .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"