الديمقراطية فعلاً مهددة

04:46 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. لويس حبيقة

هنالك إجماع دولي يؤكد أن الديمقراطيات مهددة نتيجة الصراع السياسي العالمي والأوضاع الاقتصادية المتشنجة والإرهاب المجرم المتنقل. أهم هذه المؤشرات هو انتخاب دونالد ترامب رئيساً. أفكاره التي أنتخب على أساسها تصفها مجلة «فورين أفيرز» بالعادية أي تحمل الأفكار الجمهورية الكلاسيكية لكنها تتسم في نفس الوقت بعدم الكفاءة بل بالشديدة الخطورة. في الواقع وفيما يخص أفكار ترامب الأوروبية، هنالك انقلاب مقارنة بالسياسات السابقة. أولاً أيد ترامب خروج بريطانيا من الوحدة الأوروبية وتعاطف إلى حدود بعيدة مع الأفكار اليمينية المتطرفة في أوروبا. وضع «أمريكا أولاً» كشعار بل كهدف لرئيس أمريكي يناقض السياسات الأمريكية السابقة، أقلها منذ «هاري ترومان». الأخطر هو عدم تأييده للاتفاقيات التجارية وللتحالفات السياسية والعسكرية التي كانت تصب كلها على عكس ما يعتقد في مصلحة بلاده. طبعاً هو يتراجع عن بعض أفكاره، خاصة عندما قال للرئيس الفرنسي ماكرون انه فضله على منافسته اليمينية وعندما أخذ يطالب بتعديل اتفاقيات بدل إلغائها وغيرها من الأفكار التي يمكن وصفها بالخطيرة. شعارات ترامب بأكثريتها غير مبنية على وقائع وعلوم.
أتى ترامب إلى الحكم نتيجة فشل العديد من السياسات السابقة من سياسية واقتصادية واجتماعية وغيرها. ينسحب ترامب في الواقع تدريجيا من قيادة العالم الذي بنته الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. خطابه في قمة دول حلف شمال الأطلسي شدد على ضرورة تسديد الدول الأعضاء واجباتها المالية، أي على عكس رسائل الرؤساء السابقين. قال الرئيس ترومان انه مهما كانت أمريكا قوية، لا يمكنها أن تدير العالم كما تشاء. ركز الرؤساء الأمريكيون منذ ترومان على وجود دول حليفة صديقة قوية تتعاون معها في السراء والضراء مهما كانت التكلفة المالية. أتى اليوم ترامب كمحاسب مالي وليس كقائد استراتيجي لحلف سياسي وعسكري. من لا يؤيد الولايات المتحدة ويريدها أن تفشل سيكون مسرورا جدا بما قاله وسيقوله ترامب في جميع لقاءاته بما فيها اجتماع دول العشرين الحالي في هامبورج. يشعر الإنسان أن الرئيس الأمريكي ينظر إلى المدى القريب ولا يقيم الضرر على المدى البعيد لدولته وشعبه.
ما هي السياسات العامة التي يعارضها ترامب؟
أولاً: ضد العولمة التي في رأيه أفقدت الولايات المتحدة وهجها وجعلتها تعاني من البطالة ومن ضعف النمو. اهتمام الولايات المتحدة بالخارج أكثر من اهتمامها بالداخل، في رأيه، أضر بالاقتصاد الأمريكي وكان لا بد من انتخاب منقذ هو ترامب نفسه. يريد دفع الاقتصاد إلى الأمام أي زيادة نسب النمو بسرعة وقوة علماً أن ما تحتاج إليه أمريكا لتحقيق هذا الهدف هما عاملان زيادة الإنتاجية وتوافر اليد العاملة المتخصصة. من الصعب على أمريكا أن تحقق نموا 3% سنويا من دون استقبال العباقرة من الخارج كما فعلت منذ تأسيس الدولة الأمريكية في سنة 1776. قوانين الهجرة التي يهدف إليها تعاكس المصلحة العامة.
ثانيا: ضد تطوير التجارة الدولية على القواعد الحالية ومع العودة إلى بعض الحمايات التي تحفظ الوظائف في الداخل بدل نقلها إلى الصين والمكسيك وغيرهما. لا يعالج ترامب جدياً فوائد التجارة الدولية بل يركز على السلبيات، وهذا مضر لأمريكا على المدى البعيد. يتجاهل ترامب أن الحمايات ستكون حكماً بالاتجاهين وأن أسباب المشكلة الاقتصادية الأمريكية ليست تجارية بل نابعة من الداخل. لا يمكن لأي دولة أن تحافظ اصطناعيا على الوظائف الحالية دون أن تخسر الوظائف المستقبلية. فكرة ترامب التجارية ضيقة جدا، أي ما تخسره أمريكا يربحه الآخرون والعكس بالعكس. لا يعطي ترامب أهمية لإمكانية الربح العام المشترك من التجارة الدولية، وهذا ما يحصل عادة.
ثالثا: ضد المؤسسات الدولية من بنك دولي وصندوق نقد ومنظمة التجارة التي بنتها جميعها الولايات المتحدة وساهمت دون شك في نهوض الاقتصاد العالمي بعد انتهاء الحرب منذ 1945 وحتى فيما بعد أي بعد الأزمات المتلاحقة آخرها في 2008. كانت هذه المؤسسات وما زالت اليد اليمنى للدولة بل للإدارات الأمريكية بالرغم من تسميتها بالدولية. ما المصلحة الأمريكية في تجاهلها أو إضعافها؟
رابعا: يشير ترامب في خطاباته إلى أهمية العودة إلى الثقافة الأمريكية القديمة أي المبنية على عنصر ال WASP أي الإنسان الأبيض الأنجلو ساكسوني والبروتستانتي تحديدا. كانت هذه الجماعة قاعدته الانتخابية الأساسية. لا يرتاح الرئيس على ما يظهر إلى الخليط الأمريكي الديني والعرقي والثقافي الذي أنجح الاقتصاد وجعل أمريكا القوة العظمى. من الوقائع أن جميع حاملي جائزة نوبل للعلوم والاقتصاد الأمريكيين لسنة 2016 كانوا من المهاجرين إليها.
خامسا: تشير خطابات ترامب إلى عدم اقتناعه بالتركيبة الديمقراطية في أمريكا أي وجود سلطات تشريعية وقضائية ونقدية مستقلة تحد من سلطاته الرئاسية. ظهر هذا جلياً عند اعتراضه على قرار القاضي بشأن إلغاء منعه لمواطني دول معينة من دخول الولايات المتحدة. يشعر ترامب أن سلطاته محددة في الدستور والقانون والممارسة وبالتالي ليس مرتاحا لهذه الحدود. لا شك أن المشاكل التي بدأ يعاني منها بشأن العلاقة مع روسيا وغيرها نابعة من قناعاته والتي لا يظهر أنه غيرها أو عدل بعضها. طريقة توجهه العلنية نحو إيران وكوريا الشمالية والصين ونوعية التعاطي معها ربما تسبب حروبا مستقبلية لا يرغب بها الرأي العام على ما يظهر. يريد الأمريكيون أمريكا قوية تفرض نفسها في العالم لكن ليس بأي ثمن.
ما هي النتائج حتى اليوم للسياسات الترامبية في الداخل والخارج، كما للجو الجديد الذي فرضه على المجتمع الدولي؟
أولا: لا شك أن الاقتصاد العالمي تعافى جزئيا منذ أزمة 2008. نما الاقتصاد العالمي بمعدل سنوي قدره 2,5% وهذا ليس كافياً للانتهاء من المشاكل الموجودة، كما أن النسب تختلف من منطقة إلى أخرى. النمو الخفيف في الغرب وخاصة في أمريكا مرتبط بالوضع السكاني والديون للشركات والدولة كما بالسياسات الحالية الانعزالية عموما.
ثانيا: انخفض نقد الدول الناشئة حال فوز ترامب لكن تحسنت أوضاعها فيما بعد لعدم اقتناع الأسواق بصوابية واستمرارية السياسات الترامبية. أهم مثال هي الجارة المكسيكية التي تحسن نقدها بالرغم من العلاقات القوية مع الجار الأمريكي التي تشنجت سياسيا مؤخرا. لم يلغِ الرئيس بعد فكرة بنائه للحائط ضد المكسيك، بل يسعى لإدخاله في الموازنة الجديدة. الاقتصاد المكسيكي مبني على التجارة الدولية. قيمة التجارة مع أمريكا هي 580$ مليار سنويا علماً أن 80% من الصادرات المكسيكية تذهب إلى الولايات المتحدة. ما الذي ساهم في تقوية البيزو المكسيكي؟ تصريحات أفراد الإدارة الأمريكية المناقضة للرئيس وبيانات المصرف المركزي التي وصفت قيمة البيزو بأدنى من مستواه الحقيقي.
ثالثا: استمرار الرئيس ترامب بسياساته الاقتصادية ربما تفيد على المدى القريب، لكنها مضرة على المدى البعيد. يريد ترامب الاستثمار في البنية التحتية وتخفيض الضرائب مما يسبب عجزاً مالياً إضافياً، أي فوائد مرتفعة وتحسناً لسعر صرف الدولار في الأسواق. ارتفاع الفوائد يضر بالشركات المقترضة أي معظمها وبنمو الدين العام. ارتفاع سعر صرف الدولار يضر بالصادرات وبالتالي بميزان الحساب الجاري وبقطاع الأعمال. إلى أين يذهب الرئيس وهو الذي لم يجد بعد أي عالم اقتصادي يرأس مجلس الخبراء الاقتصاديين؟ الوقت يجيب.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"