السد الأثيوبي . . رؤية مختلفة

04:48 صباحا
قراءة 4 دقائق

لا يخالجني شك في أن الدول الجارة التي أضعنا السبعين عاماً الأخيرة في كرٍ وفر معها وسلامٍ وحرب في مواجهتها، هي العقل الذي يقف وراء متاعب مصر في أعالي النيل . إن إسرائيل أيها السادة تسعى إلى تطويق مصر بدءاً من منابع النهر وصولاً إلى شبه جزيرة سيناء، وليس ذلك جديداً فلقد قالوا منذ البداية إن حدودهم من النيل إلى الفرات، وهم لا يقصدون بالضرورة الاحتلال الجغرافي ولكن بالتأكيد يشيرون إلى الاستهداف السياسي، ومصر هي القائدة في الحرب والرائدة في السلام وأكبر دولة عربية، وقد وقعت اتفاقية سلام مع إسرائيل منذ 26 مارس/ آذار 1979 ولم يكن الأمر سهلاً بالنسبة إلى مصر ورئيسها الراحل أنور السادات، إذ دفع الشعب المصري ثمناً غالياً لذلك السلام من علاقاته بأشقائه وهيبته الدولية ودوره الإقليمي، ولكننا للأسف لم نتمكن من توظيف ذلك السلام التعاقدي مع الدولة العبرية لخدمة أهداف السياسة الخارجية لمصر ومصالحها الحيوية وأمنها القومي، خصوصاً أنني أظن وليس كل الظن إثماً أن موضوع سد النهضة يقتضي تفكيراً غير تقليدي ومن خارج الصندوق، فلغة المصالح هي اللغة الوحيدة المعتمدة في العلاقات الدولية المعاصرة، ولعلي أبسط هنا ما أجملت بعضاً منه في هذه المقدمة:

* أولاً: إننا يجب أن نتحدث مع الإسرائيليين عن العبث الذي يقومون به بين دول أعالي النيل وخصوصاً إثيوبيا، فهم الذين همسوا في آذان أشقائنا الأفارقة قائلين إن العرب تصدروا الموائد في القرن العشرين بسبب النفط وهو هبة الطبيعة من الأرض إليهم، وقد حان الوقت للأفارقة بأن يتصدروا قرن المياه وهي هبة الطبيعة من السماء لهم . ورغم ما في هذه المقارنة من مغالطة، فإن دول النهر في النهاية متساوية الحقوق بدءاً من دول المنبع مروراً بدول المجرى وصولاً إلى دولة المصب، لذلك فإن الحقوق التاريخية لمصر في مياه النهر لا تحتاج إلى مراجعة إلا إذا كان الهدف هو زيادة حصتها وفقاً لتزايد حجمها السكاني وظروفها الحالية، من هنا فإنني أزعم أنه قد جرت خديعة الجانب المصري عند بداية طرح اتفاقية عنتيبي الإطارية لدول حوض النيل، حيث أوهم الجانب الإثيوبي نظراءه المصريين منذ سنوات بأن الاتفاقية الجديدة ستزيد حصة مصر من مياه النهر بينما كان الهدف الحقيقي والمستتر هو إسقاط الحقوق التاريخية لمصر التي حصلت عليها في اتفاقيات سابقة كان آخرها اتفاقية 1959 ثم مذكرة التفاهم الموقعة بين الرئيس السابق مبارك ورئيس وزراء إثيوبيا زيناوي العام 1993 .

* ثانياً: إن إسرائيل وهي لاعب قديم في القارة الإفريقية تدرك أن المياه لمصر هي الحياة، وأن الضغط يمكن أن يأتي على القاهرة من خلال ذلك المورد الطبيعي لدولة كانت ولاتزال هي هبة النيل . وإذا كان لالإسرائيليين أطماع في مياه النهر فليتحدثوا مع دول المنبع صراحة ودول حوض النهر عموماً بدلاً من التشجيع الخبيث على إقامة سدود تبدو فوائدها من ناحية توفير المياه أو توليد الكهرباء أقل بكثير من مشكلاتها ومخاطرها، خصوصاً أن هناك بدائل كثيرة تدفع التنمية في دول منابع النيل وهو حق لهم بدلاً من إيذاء الأشقاء والعبث بحقوق الغير، لا سيما أن قانون الأنهار يلزم كل دول الحوض بالرجوع إلى كل الأطراف قبل الشروع في بناء سدود عند المصب أو المجرى تطبيقاً للقاعدة الفقهية الخالدة (لا ضرر ولا ضرار) .

* ثالثاً: إن المصالح المتبادلة بين أطراف النزاع هي الطريق الوحيد لحل مشكلة السد وأمثاله عبر القنوات الدبلوماسية، فهناك اقتراح مثلاً بفتح طريق بري من الحدود السودانية إلى شاطئ البحر المتوسط وتسمية ميناء مصري لتصدير السلع الإثيوبية والسودانية بدلاً من الهضبة المختنقة وميناء سوداني وحيد على البحر الأحمر هو بور سودان، أما شاطئ المتوسط بالنسبة إليهما، فسيكون النافذة على أوروبا والعالم الغربي كله . قد لا يكون هذا الاقتراح هو الأفضل ولكننا نفتح به باباً غير تقليدي للتفكير خارج الصندوق!

* رابعاً: أما آن لنا في مصر أن نفكر بأسلوب دولي معاصر فيه حداثة الآليات وذكاء المبادرات والقدرة على توظيف الأدوات؟ إن سلامنا مع إسرائيل يجب توظيفه إيجابياً لمصلحة مصر، كما أن المصالح الإثيوبية والسودانية يجب توظيفها أيضا'، خصوصاً أن الشعوب لا تقتات قومية، ولا تشرب عروبة، ولا تدخن أخوة! إنها فقط المصالح والمصالح وحدها .

خامساً: إن سد النهضة ليس هو المشكلة الوحيدة ولكن هو بداية لسلسلة محتملة من التجاوزات على منابع النهر بدعوى السيادة الوطنية والمشروعات التنموية على نحو يكتسب تعاطفاً دولياً ويجهض إلى حدٍ كبير الدعاوى المصرية ويقرنها بمفردات مستفزة مثل الغطرسة التاريخية واستحواذ مصر على نصيب الآخرين! ويكفي أن نتذكر أن الولايات المتحدة الأمريكية والقطاع الخاص الصيني وكندا وإيطاليا متحمسة كلها للسد الإثيوبي! وحتى البنك الدولي لم يعد مطبقاً بدقة لمعاييره في ما يتصل ببناء السدود على الأنهار الدولية .

. .إن المشهد يقتضي تفكيراً جديداً خارج الأطر القديمة، وقد حان الوقت لتوظف مصر كل آلياتها وإمكاناتها وأدوات دورها من أجل رؤية تختلف عن الواقع البائس الذي نحياه .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"