السياسة النقدية والنمو

02:03 صباحا
قراءة 5 دقائق
د.لويس حبيقة*

تحاول المصارف المركزية رفع الفوائد مجدداً خوفاً من التضخم ولأن الأسباب التي وضعت من أجلها غابت. هنالك مخاطر كبيرة يمكن أن تنتج عن رفع الفوائد خاصة إذا تم بسرعة.
يعود النمو تدريجياً إلى الاقتصاد العالمي ما يشير إلى بداية ظروف جديدة ربما تفرض سياسات خلاقة أهمها في الميدان النقدي. هنالك مشكلة في سوء توزيع الدخل بين الأغنياء والفقراء حيث استفاد الميسورون أكثر بكثير من نمو السنوات العشر الماضية.
لا تقتصر التغيرات المهمة في الاقتصاد الدولي على السياسات المعتمدة، إنما تصل إلى عاملي الإنتاجية والتنافسية. الاقتصادان البريطاني والفرنسي مثلا هما متقاربان في الحجم، لكن البريطاني يوظف أكثر عددا بينما العامل الفرنسي منتج أكثر. كلا الاقتصادان يعتمد بنسبة 80% على الخدمات، 15% على الصناعة والباقي موزع بين الزراعة والأشغال. في ميزان القوة الشرائية، يعتبر البريطاني التاسع عالميا أمام الاقتصاد الفرنسي الذي يشغل المرتبة العاشرة. أما الاقتصادات الأهم فهي الأمريكي، الصيني، الياباني، الألماني ثم الهندي، الروسي، الأندونيسي والثامن هو البرازيلي. من ناحية الصين، يقيم صندوق النقد الدولي النمو السنوي ب6,7% لهذه السنة وبمتوقع سنوي قدره 6,4% بين 2018 و2020. يتحول الاقتصاد الصيني بسرعة من استثماري إلى استهلاكي أي كمنقذ للاقتصاد العالمي وضامن للاستقرار الحالي إذا لم تحدث خضات جديدة خاصة من ناحية المصارف العالمية.
حصل صراع كبير وقوي بل سباق في السنوات الماضية بين المصارف المركزية حول تخفيض الفوائد إلى حدود سلبية تشجيعا للاستثمارات ولأن خطر التضخم لم يكن عمليا موجودا. قامت المصارف المركزية الأساسية أيضا بشراء السندات والأصول في الأسواق الثانوية لرفع حجم الكتلة النقدية وبالتالي توفير السيولة للطالبين. قامت السلطات النقدية باعتماد وسائل إضافية للتشجيع على الاستثمارات خوفا من أن يتحول المستثمرون إلى النقد العادي الذي أقله لا يحمل عائدا سلبيا. ارتفع الطلب على النقد بالرغم من خطورة الاحتفاظ به خوفا من الاهتراء أو السرقة أو الحرائق أو التلف العادي الناتج عن الإهمال. في تلك الفترة، بقيت الأجور الحقيقية على ما هي أو تدنت في بعض الأحيان ما أزال الخوف الحقيقي من التضخم وبالتالي استمرت سياسة الفوائد المنخفضة بل السلبية.
من أهم النتائج الاجتماعية لهذه السياسات توسع فجوة الدخل حيث استفاد الأغنياء من هذه السياسات أكثر بكثير من غيرهم. منذ الحرب العالمية الثانية وحتى سنة 1980، استفادت الطبقات الوسطى وما دون من السياسات العامة، كما أن العكس يحصل بدأ من 1980 وحتى اليوم. يريد الرئيس ترامب تغيير المسؤولين عن المصرف المركزي لمنعهم من تغيير سياستهم النقدية، ربما لاعتقاده ان فجوة الدخل ليست واسعة بما فيه الكفاية بعد. ما العمل؟ تغيير النظام الضرائبي لمصلحة الأمريكي العادي، تعزيز التعليم الأساسي، منع الاندماج المؤسساتي حفاظا على المنافسة وحماية العمال من الصرف والانتقام عندما يطالبون بحقوقهم.
لم تكن هذه السياسة النقدية من دون مخاطر إذ شجعت العملاء في الأسواق على الاقتراض وشراء العقارات والشقق بل الأصول عموما. ارتفعت أسعارها فخلقت فقاعات انفجرت مرارا في ما بعد. كما أن احتساب الفوائد على القروض لتخفيض التكليف الضرائبي شجع على الاقتراض الإضافي. ارتفعت أسعار العقارات ما جعلها أعلى من قدرة الطبقات الوسطى على شرائها. لذا خلقت سياسات الفوائد المنخفضة مشكلتين أولاهما ارتفاع حجم الاقتراض والديون إلى حدود خطرة كما ارتفاع أسعار العقارات ما خلق مشكلة سكنية واجتماعية كبيرة.
تحاول المصارف المركزية رفع الفوائد مجددا خوفا من التضخم ولأن الأسباب التي وضعت من أجلها غابت. هنالك مخاطر كبيرة يمكن أن تنتج عن رفع الفوائد خاصة إذا تم بسرعة:
أولا: ارتفاع الفوائد يجعل من إمكانية تسديد القروض الكبيرة الحالية أمرا صعبا مكلفا بل مستحيلا للعديد من الشركات والأفراد. لذا من الممكن أن تتجدد عندها الأزمات المصرفية التي حصلت في سنة 2008. من الممكن أيضا أن تحدث مجددا أزمات مالية واقتصادية كبيرة، العالم بغنى عنها. في كل حال لم تتعاف المصارف كليا بعد وبشكل خاص المصارف الإيطالية والإسبانية. في إيطاليا مثلا أنفقت الحكومة 17 مليار يورو لانقاذ مصرفين كبيرين بالرغم من أن أصولهما لا تبلغ أكثر من 2% من مجموع الأصول المصرفية الايطالية. السبب هو حماية النظام عبر المصرفين. لا شك أن تحسن الأوضاع الاقتصادية في إيطاليا سيساهم في معالجة الموضوع المصرفي بشكل أفضل. كذلك الأمر في إسبانيا عبر حماية مصرفين، علما أن الديون المتعثرة أو غير القابلة للتحصيل هي أقل بكثير مما هو عليه في إيطاليا.
ثانيا: منذ الركود الكبير حصلت عمليات دمج مصرفية كبيرة أي أن سقوط أي من المصارف يحدث أزمة كبيرة في الأسواق ليس في دول معينة وإنما عالميا. هنا تكمن التكلفة المرتفعة لأي سقوط تفوق ما حصل سابقا، علما أن من يسدد الفاتورة يبقى دافع الضرائب الذي يعاني معيشيا ولا قدرة له على تحمل الأعباء الإضافية المفروضة عليه.
ثالثا: من استفاد من السياسات النقدية السابقة هي شركات المال والتكنولوجيا، وبالتالي ستكون أول المتضررين من تغيير هذه السياسات. حققت هذه الشركات ارتفاعا مدهشا في أجور موظفيها وارتفعت إنتاجيتها، علما أنها غير معروفة بتوظيفها الكبير وبالتالي تؤثر قليلا على البطالة. لذا تحول الاقتصاد العالمي إلى فريقين أولهما غني ومنتج واستفاد من النمو لكنه وفر فرص عمل قليلة، وثانيهما الأكثرية التي لم تدخل إليها التكنولوجيا الرقمية الحديثة فبقيت جامدة ولم تنم بالنسب المتوقعة. تبقى التكنولوجيا أساس النمو والغنى في عالمنا اليوم، وهذا ما تشير إليه القيمة السوقية للشركات الأكبر عالميا حيث تشكل شركات التكنولوجيا 70% منها. تبلغ مثلا القيمة السوقية لشركة «أبل» الف مليار دولار وهذا ما لم تصل إليه أي شركة حتى اليوم. استمرار «أبل» في التفوق يفرض عليها الاستمرار في التجديد وخلق السلع الجديدة التي تستجيب إلى مطالب المستهلكين. تفوقها يفرض عليها الاستثمار في البحث والتطوير وهذا ما تقوم به حيث أنفقت 8,6 مليار دولار منذ أول السنة على هذا الهدف.
رابعا: تغيير السياسة النقدية سيؤثر سلبا على شركات التكنولوجيا التي استفادت من الفوائد المنخفضة وستتضرر من رفعها. نذكر جميعا ما حدث سنة 2000 مع شركات الاتصالات والأنترنت التي سبب سقوطها أضرارا وخسائر في كل الأسواق الاقتصادية والمالية.
بعد 8 سنوات من الازدهار المتواصل للأسواق وهي الفترة الثانية الأطول في التاريخ أي بعد نمو التسعينات، لا أحد يعرف كيف سينتهي الربيع الحالي. تبقى الأزمات مختلفة في خصائصها، ألا أن هنالك أمورا يجب مراقبتها. بالإضافة إلى مستوى الفوائد والتجدد التكنولوجي، هنالك القوانين حيث هنالك رغبة عالمية في فرض تحجيم الشركات الكبيرة كما حصل مع AT&T ومايكوسوفت وغيرهما دعما للمنافسة وتجنبا لوقوع خسائر كبرى في حال
تأزمت الأسواق.

* كاتب لبناني

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"