السياسة ووعي التاريخ

04:30 صباحا
قراءة 3 دقائق
تقدم السياقات التاريخية تفسيراً على درجة عالية من المنطق لما يمكن أن تؤول إليه تلك السياقات، وانطلاقاً من هذه الفرضية التي ترقى إلى درجة البداهة، فإن وعي التاريخ يصبح ضرورة لا بدّ منها لممارسة السياسة، كما تصبح أي محاولة للقفز عن القراءة المنهجية للتاريخ ضرباً من الهروب إلى الأمام من قبل المعنيين بالسياسة، وهذا الهروب قد يشكّل ظاهرة عامة في فترة تاريخية محددة، أو حتى في منطقة محددة من مناطق العالم، كما حصل في معظم دول العالم العربي، وهو ما نشهد نتائجه الكارثية في لحظتنا الحاضرة.
إن فهم المأزق الذي وصلت إليه الدولة الوطنية في معظم بلدان العالم العربي يحتاج إلى قراءة منهجية في تاريخ نشوء هذه الدولة، والمراحل التي مرّت بها، منذ لحظة الاستقلال عن الانتداب الأجنبي، وحتى انطلاق «الربيع العربي»، فالقراءة المنهجية المنشودة لا تهدف فقط إلى تفسير الواقع في تاريخيته وسياق تطوره، وإنما من أجل وضع تصورات واقعية للتأثير في مجرى الأحداث، ومن دون ذلك، فإن ممارسة السياسة ستبقى عملاً يقوم على مبدأ الفعل وردّ الفعل.
في رصد الكيفية التي تعاملت بها الكثير من النظم السياسية العربية خلال العقود الماضية، يتوضح مدى فقر ما تمتلكه من وعي سياسي بالمتغيّرات العالمية، معتقدة أنه بإمكانها عزل نفسها عن تلك المتغيّرات، والاستمرار في الحكم بالآليات القديمة نفسها، فعلى أقل تقدير مرّ العالم، منذ سقوط الاتحاد السوفييتي في أوائل تسعينات القرن الماضي، وانهيار المنظومة الاشتراكية، بالعديد من المتغّيرات التي طالت النظام الدولي، ومواقع اللاعبين فيه، وتأثير الموجة العولمة، المبنية على ثورتي التقانة والاتصالات، في تلك المتغيرات.
لم تدرك معظم الأنظمة العربية أن موقعها الهامشي في النظام الدولي راح يزداد مع انهيار المنظومة الاشتراكية، ونهاية الحرب الباردة، وأن الرأسمالية بنسختها العولمية الجديدة سيكون لها تأثير متعاظم في الدول الهامشية، ما سيضعها أمام أزمات جديدة، وأنه ينبغي إحداث تغييرات في علاقة النظام السياسي بالمجتمع من أجل التكيّف مع المعطيات الدولية والعولمية الجديدة، وأن خيار التغيير هو خيار لا مناص منه لتجنيب الدول مأزق الصدام الاجتماعي والوطني.
إن واحدة من السمات التي تشترك فيها بلدان «الربيع العربي» هي احتكار الدولة للاقتصاد، ولئن كان ذلك الاحتكار ممكناً لعقود، في سياق الحرب الباردة، فإنه لم يعد كذلك بعد نهايتها، لكن النظم السياسية في بلدان «الربيع العربي» استمرت في احتكارها للاقتصاد، والتحكّم فيه.
إن انتصار نماذج معينة في التاريخ هو انتصار أيضاً للمفاهيم التي تقوم عليها تلك النماذج، فسقوط الدولة الشمولية التي كان يمثل الاتحاد السوفييتي نموذجها الأبرز في القرن العشرين هو سقوط لمفهوم الشمولية نفسه، ولكل ما يرتبط بهذا المفهوم من مفاهيم أخرى، مثل قيادة الحزب الواحد للدولة والمجتمع، وهو النموذج الذي استلهمته أنظمة الحكم في الدول التي شهدت انتفاضات «الربيع العربي».
هل كان ممكناً في ظل المتغيرات التي طالت النظام الدولي أن تستمر قيادة الحزب الواحد للدولة والمجتمع؟ لقد كان مطلوباً من النظم السياسية أن تسأل نفسها هذا السؤال، وأن تقرأ التاريخ بمنهجية وحيادية ما أمكن، لكنها لم تفعل ذلك، انطلاقاً من قناعة غير منهجية لديها بأن العالم العربي ليس مؤهلاً بعد لدخول عصر الديمقراطية والتعددية السياسية، وأن الفئات الاجتماعية لا تمتلك الوعي الكافي لإدراك مصلحتها في التغيير، وأنه لا توجد نخب حقيقية قادرة على قيادة حركة التغيير، خصوصاً أن النظم السياسية كانت قد عملت جاهدة لعقود على قطع أي تراكم سياسي واجتماعي، ومنع تشكّل نخب معارضة وازنة، وذات امتداد جماهيري مؤثر.
إن الواقع العربي المضطرب اليوم، والحاجة إلى بناء سياسات أكثر مطابقة للواقع، يحتاجان إلى وعي جديد بالتاريخ المعاصر، من أجل درء مخاطر مستقبلية، لن تكون أقل كارثية عما نشهده اليوم.


حسام ميرو
husam [email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"