الشعبوية والعولمة

02:54 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. لويس حبيقة *

بيل كلينتون الذي أخطأ كثيراً في حياته الشخصية وكاد يعزل من قبل الكونجرس، أنقذته جاذبيته الشخصية وفاز في الرئاسة مرتين. وهيلاري ربما تكون أكفأ من زوجها وهي المحامية الذكية، لكنها تفتقد إلى الجاذبية الطبيعية وبالتالي خسرت الرئاسة مرتين.
هنالك فارق كبير بين الشعبية والشعبوية. الأولى جيدة حيث يكتسب الإنسان تقدير الغير أي الشعب ويستفيد منها في الانتخابات السياسية أو المهنية أو في تسويق السلع والخدمات أو في تحسين مكانته ومركزه في المجتمع. الشعبية جيدة وتبنى مع الوقت بجهد وعبر العلاقات الحسنة مع الناس، وتتطلب تضحيات كي تكون الصورة جيدة. تبنى على تجنب الأخطاء والتحسس مع الناس في السراء والضراء وعلى الخطاب الجيد المهذب الذي يحتوي على معانٍ فاضلة تخدم النفس والمجتمع. من يعتبر شعبياً يكون محظوظاً لأن الجهد أحياناً لا يكفي بل يتطلب بعض الجاذبية الشخصية التي لا تتمتع بها إلا أقلية في أي مجتمع. الجاذبية تعوّض أحياناً عن الأخطاء التي يرتكبها الإنسان في حياته عن قصد أو دون قصد.
«بيل كلينتون» الذي أخطأ كثيراً في حياته الشخصية وكاد يعزل من قبل الكونجرس، أنقذته جاذبيته الشخصية وفاز في الرئاسة مرتين. وهيلاري ربما تكون أكفأ من زوجها وهي المحامية الذكية لكنها تفتقد إلى الجاذبية الطبيعية، وبالتالي خسرت الرئاسة مرتين. والجاذبية مهمة في الاقتصاد والفن والتدريس والعلاقات العامة والإعلام وغيرها.
أما الشعبوية، فهي تحتوي على الكلام المقصود المنمق الهادف إلى تحقيق غايات معينة ربما تعتمد على حقائق أو العكس تماماً. للأسف تفوز الشعبوية أحياناً على الشعبية إذا أحسن الشعبوي تغليف أو تسويق رسائله إلى المواطنين. يعتمد السياسيون عموماً على الشعبوية للفوز، وقد مورست يميناً ويساراً في أشكال مختلفة في كل الدول. فالشعبوية تؤثر في الشعبية الحقيقية إيجاباً أو سلباً، تبعاً لنوعيتها والذكاء في تسويقها وممارستها ضمن التقاليد والثقافات الموجودة. لا شك أن الشعبوية ارتفعت مؤخراً في كل الدول مما يفسر تقدم الأحزاب المتطرفة في اليمين واليسار التي لا تجذب أفكارهم الحقيقية بل تخيف، فيعتمدون على التغليف الكاذب ليفوزوا في الانتخابات. دلّت المواجهات في فرجينيا بين الأحزاب اليمينية المتطرفة والأحزاب والقوى الأخرى على ضعف التماسك في المجتمعات بالرغم من الجهود المبذولة منذ عقود لتحسين العلاقات بين الأجناس والطوائف والأعراق. تمر أمريكا اليوم في فترة مراجعة لما يحصل وكيفية تجنب صدامات مشابهة في المستقبل. في منطقتنا، تضرّنا الشعبوية كثيراً وتسبب حروباً مناطقية ومذهبية وطائفية ودينية تدمر دولنا واقتصاداتنا وتهجّر شعوبنا وما زالت تقوى.
العولمة مهمة جداً وساهمت في تنشيط كل الاقتصادات، لكنها خلقت في نفس الوقت معارضة قوية لها اعتمدت على الشعبوية لتقوى. معظم الشعارات السياسية والاقتصادية العلنية تقوم في وجه حرية التجارة والاستثمارات وانتقال رؤوس الأموال وغيرها من الأفكار التي تؤيدها العلوم الاقتصادية منذ نشأتها. تسيء الشعبوية إلى الحاضر والمستقبل وتجد من يعتمد عليها لتسويق أفكار معقدة خاطئة. هنالك جو عالمي ضد الحريات الاقتصادية ومع الحمايات، وتدخل الدولة أكثر في الاقتصاد دون أن تبنى هذه الرسائل على العلم والواقع والتجارب العملية الجدية. طبعاً العولمة لم تعط النتائج المتوخاة فيما يخص توزع الدخل والفقر، لكن الحل لا يكمن مطلقاً في الانعزال والخوف والرفض والكراهية والإقفال والتهديدات والحروب. يكمن الحل في تحسين ضوابط الحريات التجارية والمالية التي تضر إذا تركت تعمل بطرق فوضوية. مواجهة العولمة والقواعد التي بنيت عليها كانت منتظرة، إلا أن المفاجأة كانت في العنف السياسي والخيارات السيئة التي رافقتها والتطرف الذي نسمعه من قبل بعض السياسيين والاقتصاديين وقطاعات الأعمال والمجتمع عموماً.
لا يمكن للشعبوية أن تنجح مع الوقت أي مع ممارسة أفكارها الخاطئة أو غير المدروسة المبنية على انتقاد أو رفض الأفكار السابقة أياً كانت. ما نشهده في فنزويلا مهم ويعتبر مثالاً كبيراً للشعبوية الممارسة مع الرئيسين شافيز ومادورو خلال سنوات والتي لم تنتج إلا خراباً في دولة غنية ومع شعب نشط يفتقر اليوم إلى أهم السلع المعيشية ويحاول الهرب من الفقر والمغادرة إلى الدول المجاورة. هنالك شعبويات كثيرة وعميقة في الدول العربية، حيث تحرّك الخطابات السياسية والدينية غير المبنية على الواقع والعلم والرؤية الشعوب، وتدفعهم إلى العنف والممارسات المسيئة إلى شعوب المنطقة. طبعاً أكثرية الشعوب العربية لا تؤمن بالعنف، لكن المشكلة تكمن دائماً في أن أقلية متطرفة تتحكم بتوجهات الأكثريات، وقد عايشنا في لبنان هذه الوقائع بدءاً من سنة 1975 وحتى اليوم. حتى أوروبا، عانت وتعاني شعبويات مختلفة، لم ننس هتلر ولا ننسى أحزاب اليمين واليسار المتطرفة التي تبني انتصاراتها على أفكار غير واقعية ولا مجال لتنفيذها في القرن الحالي. شعبوية «دونالد ترامب» أيضاً واضحة وها هو يتراجع عن العديد من الأفكار السياسية والاقتصادية التي سوّقها في الحملة الانتخابية، لأن الوقائع لا تسمح له بتحقيقها. من إيجابيات الشعبويات أنها تفرض على المجتمعات والقيادات مراجعة ما طبّق والتعديل الضروري لتحسين النتائج، لأن هذه الموجات لا تنبع من الفراغ بل تستغل بعض النواقص والضعف لتنمو. يقول الاقتصادي «داني رودريك» إن من أهم نتائج الشعبوية أنها أفهمت العالم أنه يجب تعديل مسيرة العولمة، بحيث تخف مساوئها وتقوى منافعها من ناحيتي النمو والازدهار والتنمية.
يقول «تيموتي جايتنر» وزير المالية الأمريكي السابق في كتابه عن الأزمة المالية العالمية إن «الركود الكبير» بدأ من 2008 كانت الأزمة المالية الأسواء منذ كارثة 1929. مع أن العالم تخطى أسوأ مفاعيل هذه الأزمة إلا أن نتائجها ما زالت تظهر في المؤشرات الاجتماعية والسياسية. وضعت المجالس النيابية قوانين لتشديد الرقابة وحماية المواطن والمستهلك تجنباً لحدوث أزمات مستقبلية مشابهة، منها رفع ضمان الودائع من 100 ألف دولار في الولايات المتحدة إلى 250 ألفاً لإراحة أكثرية المودعين. تنعم المصارف اليوم برؤوس أموال أقوى واحتياطات أكبر، مما يسمح لها بمواجهة المخاطر المحتملة. تحتوي ميزانيات المصارف على نسبة أقل من الديون القصيرة الأجل، مما يقلل من خطورة الإفلاس الذي لا يقتصر عموماً على مصرف واحد إنما يضرب النظام بأسره. هل يمكن القول إن الاقتصاد العالمي تعافى وإننا أصبحنا نعيش في آمان مالي ونقدي واقتصادي؟ يقول «جايتنر» إن المخاطر ما زالت موجودة كالآتي:
أولاً: مهما كانت الإصلاحات مهمة وعميقة لا يمكن أن تحمي النظام المالي والمصرفي كلياً من المخاطر ومن إمكانية السقوط. في كل حال، تأتي المخاطر عموماً بشكل مفاجئ نتيجة سوء التحضير بل الإهمال وعدم التعلم من تجارب الماضي.
ثانياً: ترتبط درجة المخاطر بنوعية السياسات المعتمدة من قبل السلطات السياسية. لا بد من وضع موازنات لمواجهة الأزمات المحتلمة إذا أتت أو عندما تأتي. لا يمكن إلغاء المخاطر، بل التخفيف من احتمال حصولها ودرجات أضرارها.
هنالك شعبويات كبيرة في المنطقة تمارس في الداخل وعلينا. لا يمكن فصل الأوضاع الخليجية عن بعض الشعبويات الممارسة بكل الاتجاهات. تؤثر هذه الظروف في العلاقات المستقبلية الخليجية إذ ارتفع مؤخراً التبادل التجاري الداخلي نتيجة سياسات التنويع الممارسة. هنالك شعبويات تمارس تجاه إيران ومنها، تبعاً للاستشاري «ماكنسي»، يمكن لإيران رفع ناتجها المحلي بألف مليار دولار وخلق 9 ملايين فرصة عمل قبل سنة 2035 إذا طبق الاتفاق النووي ولم يتم التراجع إلى الوراء. بدأت مصر في استقطاب استثمارات نوعية وستتحسن الأوضاع إذا ما استمر الهدوء كما الموضوعية في السياسات العامة. الشعبوية مضرة في دول المنطقة ولا بد من أن نبتعد عنها لبناء مستقبل أفضل للأجيال القادمة.

* كاتب لبناني

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"