الطهرانية والنقد خارج السيرورة

03:53 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو
ثمة ميل واضح عند بقايا اليسار العربي، وطيف من القوميين العرب، إلى نقد «الربيع العربي»، من باب «ليته لم يكن»، نظراً إلى النتائج الكارثية التي آلت إليها حركته، خصوصاً في التجربتين الليبية والسورية، حيث تحوّلت الدولتان إلى دولتين فاشلتين، مع تدخل إقليمي ودولي كبير في رسم مصائر البلدين، يضاف إلى ذلك حجم الكارثة التدميرية للعمران، وموت مئات الآلاف على أقل تقدير، ولجوء الملايين إلى بلدان عربية، وأوروبية، وبروز ظاهرة الإرهاب، وانتشار الفصائل، والتنظيمات التكفيرية، والخسائر الاقتصادية التي تقدّر بمئات المليارات من الدولارات، وإلى ما هنالك من مشكلات وأزمات أفرزها تحوّل انتفاضات «الربيع العربي» إلى حروب داخلية، وصراع أمم.
هذا الميل الذي أشرنا إليه ينطلق من تقييم النتائج، عملاً بمبدأ «الأمور في خواتيمها»، ويقول ما مفاده إن بقاء الأمور على ما كانت عليه هو أفضل بما لا يقاس بما وصلنا إليه، أقله لجهة التدخلات الإقليمية والدولية الحاصلة اليوم في المنطقة التي تحاول رسم مصيرها بناءً على مصالح تلك الدول، وليس مصلحة الشعوب العربية، إضافة طبعاً إلى تراجع مكانة قضية العرب المركزية «فلسطين»، لمصلحة صراعات إقليمية، وما جرّته من استقطابات مذهبية، قد يكتب لها أن تعيش لعقود مقبلة، وأن تذهب بما بقي من مقدرات شعوب المنطقة.
من حيث الشكل، يبدو هذا النقد الموجه ل«الربيع العربي» صحيحاً لجهة اعتماده على تقدير الضرر في حركة التاريخ، وفيه الكثير من المخاوف التي لا يمكن نكرانها، لكنه من حيث المضمون، أي من حيث تحليل البنى التاريخية، يفقد مصداقيته، فكل حركة تاريخية هي جزء من سيرورة لا يمكن القفز عنها في تحليل النتائج، ونكران تلك السيرورة، أو التنكر لها، من قبل المفكرين أو السياسيين، أو القوى الحزبية، وهو ما يضعهم بالدرجة الأولى خارج تلك السيرورة نفسها، ويعكس حالة من الحَول الفكري، أو الانتهازية السياسية، في التعاطي مع حركة التاريخ ووقائعه.
إن تحليل آليات التحوّل نحو العنف في التاريخ يظهر قبل كل شيء حالة الاستعصاء التي سبقته، كما أن قياس درجة العنف وتقديرها مرتبط جدلياً بدرجة ذلك الاستعصاء، فالبنى المرنة يمكن لها أن تستوعب الأزمات، وأن تعالجها، بل وأن تستفيد منها، لكن البنى الصلبة، كما في البنى الشمولية، فهي تقاوم أي عملية تغيير، وهذه الخاصية هي خاصيّة يمكن تعميمها على مختلف البنى الشمولية، وليست حكراً على منطقة بعينها، أو ثقافة محددة.
إن خيار العنف في التغيير ليس خياراً إرادياً محضاً، بل هو محصلة جملة من المعطيات المركبة والمعقدة، ويعكس مستوى الأزمة في بنية مجتمع ما، بقدر ما يعكس مستوى أزمة السلطة، وهو خاضع- بهذه الدرجة أو تلك- لمبدأ الفعل وردّ الفعل، وبالتالي فإن نقد العنف الذي تحوّلت إليه حركات «الربيع العربي» لا يمكن له أن يستقيم في التحليل من دون نقد كمّ العنف الذي مارسته الأنظمة السياسية خلال فترة حكمها، ومستوى الإحباط الاجتماعي من الكيفيات التي عالجت فيها تلك الأنظمة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بل وتنكرها في كثير من الأحيان لأبسط المطالب الاجتماعية.
إن السؤال الذي يطرح نفسه، والذي يتجاهله منتقدو «الربيع العربي» هو: هل كان من الممكن أن تصل انتفاضات شعوب «الربيع العربي» إلى ما آلت إليه لو استجابت الأنظمة السياسية عبر سنين حكمها إلى مطالب شعوبها؟
لقد حوّلت الأنظمة السياسية في بلدان «الربيع العربي» شعوبها من ذوات إلى موضوعات، فقد أصبحت تلك الشعوب موضوعاً للسلطة المجرّدة، من دون أي سؤال جدي من قبل النخب الحاكمة حول قدرة تلك الشعوب على المزيد من التحمّل، وقبول تلك الوضعية من الازدراء بمكانتها، والسخرية من إمكاناتها على التحرك، وتغيير واقعها، وقبل كل ذلك التعبير عن مستوى اليأس الذي وصلت إليه.
إن ما يتجاهله أيضاً منتقدو «الربيع العربي»، بل ويتنكرون له، هو أن التاريخ ليس عقلانياً، لكنه منطقي على الأقل، إذ إنه يمكن اعتبار نتائج حركة تاريخية ما منطقية قياساً إلى تحليل سياقها، وليست حركات «الربيع العربي» في نتائجها استثناءً، ويمكن تحليل نتائجها انطلاقاً من السياقات المختلفة التي أنتجتها، وبالتالي فإن توجيه النقد للنتائج بمعزل عن السياقات هو عملية تطهرية، وفيها ترفع عن الواقع غير مبرر من الناحية المعرفية والأخلاقية على حدٍّ سواء، إذ إنه من الخطأ معرفياً الاعتقاد، على سبيل المثال، أن الأنظمة الشمولية في بلدان «الربيع العربي» كان يمكن لها أن تفرز معارضات ديمقراطية وليبرالية في الوقت الذي انتفت فيه كل مظاهر الديمقراطية والليبرالية والتعددية في تلك البلدان على مدار عقود من الزمن.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"