العالم يتغير والأمل يبقى

01:51 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. لويس حبيقة

قال الفنان «جراوشو ماركس» إن «السياسة هي فن البحث عن المشاكل، إيجادها، سوء درسها ثم تطبيق المعالجات الخاطئة». ممارسة السياسة بالشكل والمحتوى الذي وصفه ماركس أعطت النتائج التي نعيش معها اليوم.
النتائج السياسية والأمنية السلبية معروفة في كل العالم وخاصة في منطقة الشرق الأوسط. النتائج الاقتصادية لم تعد كما كانت في الخمسينات والستينات من القرن الماضي ليس فقط بسبب غياب القيادات التاريخية التي حكمت، بل بسبب السياسات الخاطئة التي طبقت في معظم دول العالم عن جهل أو قصداً. من هذه النتائج، تشير الإحصائيات إلى أن ادخارات 47% من الأمريكيين لا تصل إلى 400 دولار أي هم غير قادرين على مواجهة مفاجآت متواضعة القيمة. المعيشة أصبحت مكلفة خاصة مقارنة بمعدل الدخل إذ كبرت الفجوة بين الأغنياء والفقراء وأصبح من المستحيل على الطبقات الوسطى مواجهة تكلفة الحياة العادية في الدول الصناعية والأخرى أيضا.
لا شك أن تكلفة الاستشفاء والطبابة كما تكلفة التعليم المدرسي والجامعي ارتفعت نسبة لدخل الطبقات الوسطى وما دون. ربما النوعية ارتفعت في أكثرية الحقول، لكن التعريفات ارتفعت أيضا لتمويل البحث ورفع الإيرادات. ارتفعت معها أقساط التعليم على كل المستويات ورفعت معها أسعار السلع والخدمات بما فيها أسعار العقارات التي أنتجت فقاعات أحدثت أزمات مالية دورية آخرها مهمة جدا بدأ من سنة 2008. حتى منتصف العقد الأول من هذا القرن، كان معدل نمو الدول الناشئة 7% سنويا كما بدأت الدول الفقيرة تنتعش إلى حد بعيد. في سنة 2007، وصل معدل نمو الدول الناشئة إلى 8,7% وأصبحت الطبقة الوسطى العالمية تعد حوالي ملياري شخص. حوالي 440 مليون شخص أنقذوا من ظلم الفقر خلال عشر سنوات قبل الركود الكبير. اعتقد العالم أجمع أن العالمين الصناعي من جهة والآخر من جهة أخرى سيلتقيان قريبا بفضل نسب النمو القوية وانتقال التكنولوجيا والعلوم بسرعة عبر القارات، لكن هذا لم يحصل وحدثت أزمة 2008 التي ما زلنا نعاني من نتائجها.
لماذا لم يتم هذا التلاقي وحصلت الأزمة الكبيرة وتستمر نتائجها حتى اليوم، بينها انخفاض معدل نمو الدول الناشئة إلى نصف ما كان عليه سابقا أي من 7,4% إلى 3,8% مؤخرا؟
أولاً: الوضع الروسي والعلاقات مع أوكرانيا بالإضافة إلى العقوبات الموضوعة من قبل أوروبا وأمريكا. أثرت هذه الوقائع على الاقتصاد الروسي، إذ تدنت نسبة النمو السنوية من 4,5% في سنة 2010 إلى نمو سلبي قدره 2,8% في سنة 2015. الموازنة عاجزة في حدود 3,7% من الناتج في سنة 2016، لكن ميزان الحساب الجاري يبقى فائضا بفضل الصادرات المرتفعة مما يضيف إلى الاحتياطي النقدي الكبير. روسيا قوية بفضل احتياطيها البالغ 300 مليار دولار والذي يسمح لها بتغطية 17 شهرا من الواردات. لذا لم تسقط ولن تسقط روسيا بسبب العقوبات، إلا أن نموها تعثر وبالتالي أوضاعها الاقتصادية العامة تسوء.
ثانيا: الربيع العربي لم يعط الثمار المأمولة. الأوضاع في المنطقة العربية سيئة حيث الكارثة السورية مستمرة وتتداخل فيها المصالح الدولية ماليا وعسكريا وأمنيا. لن ترتاح المنطقة قبل إيجاد حل لهذا النزف البشري والمادي والسياسي السوري. تكلفة إعمار سوريا كبيرة وتقديرات التكلفة ترتفع من يوم لآخر وربما تتعدى 300 مليار دولار حاليا. أوضاع العديد من الدول العربية لا تطمئن وإن تكن الظروف مختلفة، إذ تتشابك المواضيع السياسية بالأمنية والاجتماعية والثقافية وتؤثر جميعها على الاقتصاد.
ثالثا: انتشار الإرهاب بأشكال مخيفة في كل مناطق العالم بالرغم من كل الاحتياطات المتخذة في الأمن والنقل والحدود الجغرافية. ما حصل في كثير من دول العالم مؤلم وأسبابه مختلفة، علما أن معظم الدراسات الموضوعية لا تربط الإرهاب بالفقر. تحسين أوضاع الفقراء مفيد دائما، إلا أن أسباب الإرهاب ومصادره غير مرتبطة بالفقر دائماً. مع الإرهاب، تنتشر الأمراض في الدول الإفريقية مما يعيق عملية التنمية التي تحتاج إليها القارة بحيث يخف النزف البشري الكبير الخطير عبر البحار إلى أوروبا.
هذه المجموعة الصغيرة من النتائج السلبية التي نعيش معها تشير إلى فشل سياسي في قيادة العالم والى انتشار الفساد وعدم التنبه إلى مشاكل الشعوب وخصوصا الطبقات الوسطى وما دون. الشعوب تتذمر اليوم كما تشير إليه كل الانتخابات في أمريكا وأوروبا، إلا أن الحلول غير متوافرة بعد وربما تسوء الأمور أكثر قبل أن تستقر الأوضاع إيجابا. يقول «جوناتان تيبيرمان» في كتابه عن الإصلاح إن السياسيين أهملوا معالجة العديد من الأمور ومن أهمها:
أولا: توسع فجوة الدخل حيث تساهم في زيادة الفساد وتنشر الفقر وتسبب الشغب وتعزز القلق بل الخوف من المستقبل كما تؤثر سلبا على الاستقرار السياسي والنظام الديمقراطي والأسواق التنافسية الحرة. مساوئها الاجتماعية كبيرة أيضا من ناحية تأثيرها سلبا على العمر المرتقب أي على مؤشرات الصحة والتعليم والتغذية. للأسف بالرغم من كل الكلام والدراسات والإنذارات تستمر فجوة الدخل في التوسع عالميا مما لا يطمئن، حيث يتعزز التطرف المقلق. الأوضاع الاقتصادية العالمية اليوم تعزز التطرف والتصرف بعنف والكره على كافة المستويات. ما يحتاج العالم إليه ليس فقط نموا أعلى وتوزعا أفضل لهذا النمو، إنما أيضا تغييرا حقيقيا في الأنظمة الضرائبية وتعديلا في الهيكليات الاقتصادية داخل الدول تعزيزا لأوضاع الطبقات الوسطى وما دون.
ثانيا: مواضيع الهجرة التي أثرت سلبا في الدول المستقبلة للمهاجرين. هنالك موجة عدائية كبيرة تجاه من يحاول اللجوء إلى أوروبا أو أمريكا أو أستراليا أو كندا أو غيرها. أمريكا تحاول تغيير قوانين الهجرة بالرغم من أن 60% من أفضل تقنيي «وادي السيليكون» هم من المهاجرين، وأوروبا أعادت بعض الحدود بين الدول التي غابت مع اتفاقية «شينجين». الدول الغربية تتنبه لكل من يحاول القدوم إليها زيارة أو هجرة أو استثمارا أو غيرها. هنالك قلق من التغيرات الديمجرافية والثقافية المحتملة وتردد في المعالجات الداخلية والدولية. تشير دراسات منظمة التعاون الاقتصادي العالمية OECD إلى أن تحقيق نسبة نمو سنوية 3% في كل من أوروبا وأمريكا خلال السنوات الخمسين المقبلة يفرض على كل منهما استقبال 50 مليون مهاجر على الأقل. المعالجة الأفضل للهجرة الحالية تبقى غائبة، أي تحسين الأوضاع في الدول المصدرة للمهاجرين وهذا ما لم يحصل بعد.
أخيرا، الحلول المنطقية متوافرة لكن التطبيق متعثر. الإيديولوجيات الحالية المنتشرة متطرفة ويحاول العالم النجاح في محاربتها، آخرها في لبنان على الحدود السورية. مشاكل التطرف كبيرة، أهمها التأثير السلبي على النمو والتنمية والفقر. المطلوب قيادات واعية تساهم في تخفيف الشعور المتطرف ومعالجته وليس تأجيجه. الشعوب تصنع القيادات الجيدة، وبالتالي يبقى الأمل كبيراً في المستقبل.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"