العراق.. صيف سياسي ساخن

04:54 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود الريماوي

جاءت نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة في العراق، لتعكس إلى حد بعيد الواقع السياسي بآماله واستعصاءاته في هذا البلد، رغم كل ما شابها من تجاوزات فظة وما تخللها من مالٍ سياسي، ومن استخدام للنفوذ. وقد أتت بالفعل كمباراة حامية الوطيس، وليس ذلك بغريب على بلد الرافدين في وضعه الحالي حيث تختلط السياسة بالعنف المستتر منه والمعلن.
أولى النتائج التي تستوقف المتابع هي ضعف نسبة الاقتراع، التي تراوحت حول 44 بالمئة ممن يحق لهم التصويت. وهي نتيجة تبدو متعاكسة مع سخونة المعركة الانتخابية وحملاتها. غير أن بعض جوانب هذه السخونة المبالغ فيها، هي ما حدا بالممتنعين عن الاقتراع لاتخاذ هذه الخطوة السلبية. مضافاً إليها واقع النزوح من المناطق الأصلية للإقامة، وضبابية إجراءات التسجيل وأماكن الاقتراع. والحال إن اشتعال «المعركة» تسبب فيه من يأخذون السلطة غلاباً، عبر صناديق الاقتراع أو بدونها، وهؤلاء شكّلوا نسبة كبيرة من المشاركين في هذا الاستحقاق، وخاصة في الحملات الانتخابية الكثيفة التي جرت على الأرض وفي الفضاء الالكتروني وفي محطات الإذاعة والتلفزة.
وقد لوحظ في هذه الانتخابات أن المرجع آية الله السيستاني أخذ موقفا نقديا شبه صريح ضد الفساد والفاسدين والمفسدين الذين يعرفهم العراقيون جيداً، وهو ما أدى من جهة إلى ما يشبه المقاطعة الواعية، أو الامتناع عن التصويت عزوفا ويأساً، أمام المتهافتين على الحكم، وحيث مقاعد النواب تمثل مدخلا للنفوذ والمشاركة في الكعكة للكبيرة للسلطة.
أما النتيجة الثانية اللافتة للنظر فهي بروز تكتل «سائرون» بزعامة مقتدى الصدر المتحالف مع تيار مدني، يساري أساساً، والذي يركز على مناوأة الفساد، وتوطيد ركائز سيادة البلد الفعلية بدون تدخلات خارجية مكشوفة ومستترة يَخبَرها العراقيون، والحفاظ على عروبة بلد النخيل وهويته الوطنية والقومية، وتفادي مختلف أشكال المحاصصة بما فيها تلك الموزعة بين الأحزاب والميليشيات النافذة، لصالح تشكيل حكومة تكنوقراط تستند إلى الكفاءة والوطنية العابرة للطوائف، وتستدرك ما فات من فرص النهوض، وتعالج مشكلتي إعادة الإعمار وعودة النازحين والمهجّرين.
بينما تبرز النتيجة الثالثة المهمة في تصدّر تحالف رئيس الحكومة الحالية حيدر العبادي للنتائج من خلال تحالف «النصر». وهو مكوّن رئيسي لحزب الدعوة، ويطرح نفسه عمليا كبديل عن جناح نوري المالكي وتحالفه الموسوم ب «ائتلاف دولة القانون». ولدى القاعدة الشعبية للاتجاهين فإن اسم المالكي يقترن بخسارة الموصل ثاني مدن العراق لمصلحة «داعش» الإرهابية، بينما يرتبط اسم العبادي باستعادة المدينة وإن بثمن باهظ بشرياً وعمرانياً واقتصادياً. والحال ان المالكي وجناحه قد تراجعا لمصلحة تحالف العبادي، والتحالف الآخر «الفتح» الذي يقوده هادي العامري ويضم ميليشيات الحشد الشعبي، وسبق ان أعلن رئيس الحكومة أن الميليشيات لن تشارك في الترشح للانتخابات، لكنها شاركت تحت سطوة الأمر الواقع، والتأثرات الاجتماعية والاقتصادية لانضواء عشرات الآلاف في هذه الميليشيات التي شارك بعضها في تحرير الموصل، فيما كان الدور الأساسي لقوات الجيش، علاوة على ارتكابات اقترفتها بعض هذه الميليشيات بحق المدينة وأهلها، وتشويه الطابع الوطني لعملية التحرير، واختزاله في بُعد فئوي يغذي الانقسام الأهلي.
وتبرز الآن في ضوء هذه النتائج، خيارات عديدة لتشكيل ائتلاف حاكم. فثمة خيار يدفع إليه تحالف المالكي يدعو لمنح مقاعد وزارية لكل الكتل الرئيسية بالتناسب مع حجمها. وهناك خيار الصدر بالإئتلاف مع العبادي وعمار الحكيم
( تيار الحكمة) وتيار «الوطنية» بقيادة إياد علاوي والحزب الديمقراطي الكردستاني.. فيما يتعرض العبادي لضغوط خارجية كي يجمع تحت جناحيه الصدر والعامري والمالكي والحكيم مع ترك مقاعد رمزية على سبيل الترضية والتمويه لبقية الكتل. بينما يميل الرجل حتى تاريخه للتحالف مع الصدر أساسا من أجل إشعار العراقيين بأن ثمة تغييراً قد حدث، وأن المحاصصة بين القوى إياها قد انتهى زمنها واستنفدت أغراضها، وباتت عائقا، وإن إرادة مكافحة الفساد لم تضعف، ومن أجل إرضاء الكتلة الشعبية الأوسع التي تضم مناصري الصدر، جنبا إلى جنب مع أولئك الذين عزفوا عن الاقتراع والذين ينتمون لمختلف الطوائف والمناطق.
على هذا النحو وبعد انجلاء معركة الانتخابات، فإن ثمة معركة أخرى سرعان ما انطلقت نحو تقاسم النفوذ والبحث عن حصة من كعكة السلطة، من دون تسمية ذلك بمحاصصة بل إعمالاً لآليات ديمقراطية!، فيما يبقى أن الصدر والعبادي كلاً على انفراد، وكلاهما معاً، هما من سيحددان وجهة التطورات اللاحقة في صيف العراق الساخن، على صعيد تشكيل حكومة جديدة سوف تطبع المرحلة بطابعها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"