شاشة الموت الزرقاء

00:05 صباحا
قراءة دقيقتين

كان الروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو (نوبل 1998)، يقول: «الرجل المعاصر له ثلاثة أمراض: عدم الاتصال، الثورة التكنولوجية، الحياة المركّزة في نجاحه الشخصي». ولعل مرض الثورة التكنولوجية هو ما تمثّل عملياً قبل ثلاثة أيام، حين تسبب عطل رقمي في شلّ حركة الأنظمة الكمبيوترية في العالم الذي أصبح مضطرباً، بل عاجزاً عن أي تصرف استدراكي لتصحيح خطأ الكمبيوتر لساعات طويلة توقف خلالها تنظيم الأعمال في الجوّ والبحر والأرض.

على نحو ما، هذه حالة مرضية تكنولوجية عكست ضعف الإنسان الذي هو من اخترع الرقميات والإنترنت وشبكات الاتصال العابرة للقارّات، ولكن الإنسان نفسه سيكتشف في لحظة القلق الوجودي والمادي والمعنوي الذي لفّ الكرة الأرضية أن التكنولوجيا هي التي تتحكم في البشر، وما البشر الآدميون هؤلاء سوى كائنات آلية يسيطر عليها الكمبيوتر، وفي لحظة الغضب أو الخطأ الرقمي تظهر للكائن البشري لوحة رمزية ذات دلالة ثقافية تقول له إنه الآن أمام شاشة الموت الزرقاء.

توقف قلب العالم بضع ساعات، ولكنها كانت كافية تماماً ليتحوّل الإنسان إلى مشهد رثائي يثير الشفقة.. المئات في مطارات بعض بلدان العالم الكبرى؛ مثل الولايات المتحدة الأمريكية، مطروحون على الأرض، أو نائمون على حقائبهم في صورة خرقاء يستسلم فيها المرء إلى ضعفه، وينتظر بأعصاب هائجة رحمة الإنترنت.

هل هي صورة ثقافية عالمية أيضاً؟ نعم هي كذلك، وبامتياز، ذلك أن الإنسان الذي استقوى بالتكنولوجيا، وتخلّى تماماً عن ماضيه الطبيعي والأخلاقي والحرفي والصناعي، وجد نفسه، فجأة بلا بدائل تراثية ماضوية تحميه من تقدمه المرعب في الحداثة وما بعد الحداثة.

يبدو أنه إلى جانب المحراث الآلي الضخم يجب أن توجد الفأس اليدوية، وأنه إلى جانب سيارة «الرولز رويس» يجب أن يوجد الحصان، وأنه إلى جانب الصاروخ لا بد من المنجنيق ولو من باب ثقافة المتحف، وأنه إلى جانب أصابع الطباعة الرقمية يجب أن يكون القلم.

البدائل التقليدية لا بدّ منها لأمرين: على الأقل أولاً للذاكرة، وثانياً للاستعانة بها حتى ولو كانت بطيئة في زمن السرعة المتهوّرة، سرعة الرقم الآلي الذي يقفز بين القارّات وفي الفضاء مثل القرد.

كان إنسان القرن الحادي والعشرين، إنسان حقبة الذكاء الصناعي قبل ثلاثة أيام مهزوماً، أو بلا إرادة، وبلا توازن. أو الأرجح أنه كان ضائعاً بين مطار هنا، ومصرف هناك، أو بين مستشفى هناك، وقطار هنا كلها كانت تعمل بالأرقام الآلية السريعة. ولأن البشري بطبعه بطيء قياساً للكمبيوتر، فقد ضربته السرعة الضوئية للعلم.. وطرحته نائماً ذليلاً في صالات الترانزيت.

غداً أكمل.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/ywrs4ds5

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"