المستجد الأكثر حساسية في الواقع العربي

03:55 صباحا
قراءة 4 دقائق
محمود الريماوي
ثمة واقع سياسي جديد تشهده منطقتنا العربية منذ مطالع السنة الماضية ،2013 تدل عليه التحولات في موازين القوى والسلطات على الأرض، والتبدلات في الأولويات لدى الأنظمة والشعوب . هذا الواقع الجديد يمتد تأثيره إلى خارج منطقتنا مما استتبع أشكالاً من التعاون والتنسيق مع الخارج، وابتعدت معه الحساسيات من أدوار خارجية .
من أبرز ملامح هذا الواقع نشوء ميليشيات وجماعات مسلحة في غير بلد عربي وتمتعها بمستوى عال من التجهيز والتدريب، مع تمدد بعضها إلى خارج مواطن نشوئها . وهذا مستجد بالغ الأهمية . فقد أصبح للجيوش رديف من جماعات مسلحة منظمة، سواء كان هذا الرديف مقبولاً أم لا، فقد أصبح جزءاً لا يتجزأ من الواقع الجديد . وما حدث في اليمن خلال الشهرين الماضيين يمثل صورة مختصرة لهذا التحول، فقد أصبحت جماعة الحوثيين المسلحة على أرض الواقع نظيراً ورديفا للجيش اليمني . وتغيرت بذلك صورة الدولة وأركانها وركائزها . وفي العراق ثمة حديث رسمي عن ميليشيات مسلحة، توصف بأنها تحارب الإرهاب، رغم أن نشوء هذه الميليشيات سابق على الإرهاب الممثل حالياً بداعش . في سوريا هناك جماعات مسلحة بلا عدد بعضها يعمل في صفوف المعارضة، وبعضها الآخر ينشط تحت مظلة النظام . وفي ليبيا ميليشيات شاركت في الثورة على نظام القذافي، وترفض وضع أسلحتها والانضمام إلى جيش وطني .
أياً كان تصنيف هذه الجماعات فإنها أرست وضعاً جديداً يتم فيه التنازع على من يمثل الشعب ومن يمثل الوطن، ومن يحظى بالشرعية . هذه الجماعات تخاطب الجمهور وتستثمر معاناته وتستثير ولاءاته الأولى المناطقية والمذهبية . وهو نذير بتصدع الدولة الوطنية التي تعلو على منازعات الجماعات والأفراد، وتسوس الأوضاع بقانون يسمو على مصالح ضيقة لهذه الفئة أو تلك . أو هذه المنظقة أو سواها، وتنظم أوجه الموارد والإنفاق . وسوى ذلك من مهمات تضطلع بها الدول . فيما الجماعات المسلحة لا تعترف بالحدود، أو بضوابط العلاقات مع الخارج . وهذا هو حال ميليشيات عدة في العراق وسوريا وليبيا واليمن . . من دون احتساب الصومال، وبتجاوز الوضع في فلسطين المحتلة . ومع عدم إغفال مصر وأنشطة تنظيم بيت المقدس في سيناء وسواها .
وليس بعيداً عن منطقتنا، فإن جماعات مسلحة في السودان ومنذ مطلع القرن الجاري، أقامت على حمل السلاح وممارسة أنشطة عسكرية في إقليم دارفور، ولجأ النظام إلى تشكيل ميليشيات شبه شعبية: الجنجويد . وهذه الميليشيات في السودان وغيره تتجه إلى مناهضة خصوم داخليين وبيئات محلية قبل أعداء خارجيين مفترضين .
هذا الوضع يكاد يشبه حالنا قبيل استقلال الدول العربية، مع فارق أن الجماعات المسلحة كانت في أغلبيتها تتجه إلى مناوأة الاحتلال، وتسعى إلى تشكيل نواة جيش وطني بعد الاستقلال .
مع نشوء هذا الواقع الجديد بامتداداته وانعكاساته التي تفيض عن حدود بلد المنشأ، فقد طغت الاعتبارات الأمنية على أجندة الدول بعد أن تعددت أذرعة العنف والإرهاب . ولا ريب أن هناك مستوى عالياً من التنسيق يقوم بين دول عربية لمواجهة هذا الوضع الجديد . ويمتد التنسيق نحو دول غير عربية بما يخص تنظيم "داعش" الإرهابي وبما يتعداه . ويغدو الوضع أكثر تعقيداً مع وجود جماعات مسلحة مقربة من أنظمة بعينها .
في واقع الأمر أن هذا هو التطور الأكثر أهمية الذي نشأ على هامش موجة الربيع العربي وأحيانا لمعاكستها والتصدي لتداعياتها هنا وهناك . ولهذا تتعاظم الهواجس الأمنية في هذا البلد أو ذاك . ومعه يكاد يختفي النشاط السياسي الاعتيادي، إذ حلت محله تحركات ذات غايات أمنية ودفاعية . التحالف الإقليمي والدولي لمكافحة "داعش" هو أوضح شاهد على هذه المستجدات . لقد بات يمثل "العمل العربي المشترك" من جهة، والتعاون العربي الدولي من جهة ثانية . وعليه لا يغدو غريباً اختفاء الجامعة العربية ومؤسساتها عن الحضور والتأثير في المجريات العربية وفي العام الجاري بالذات . فالتنسيق السياسي الجماعي حتى في جانبه الشكلي يتراجع، وتحل محله تحركات عربية في الأمم المتحدة لنصرة القدس أو متابعة الوضع في ليبيا أو اليمن وهذا جيد، فيما تنشط تحركات ثنائية بين هذه الدولة أو تلك ذات أهداف دفاعية وأمنية، بعد أن طغى حضور الجماعات المسلحة على المشهد، وبعد أن نسج بعض هذه الجماعات علاقات معقدة مع الخارج، وتعددت مصادر تمويلها، وتعاظم استخدامها لوسائل الاتصال الحديثة لمخاطبة الجمهور أو اجتذاب الدعم .
إن الوضع العربي في طوره الحالي، هو وضع أشبه بالانفجارات أو التمزقات داخل الخلية الواحدة أو داخل الجسم الواحد من أجل تبسيط الصورة . فيما البيئة الخارجية الإقليمية والدولية التي تحيط به هي بيئة متوترة بدورها، من تركيا إلى إيران إلى موسكو وواشنطن وباريس . فالتصارع على النفوذ في منطقتنا، والخشية من موجة الإرهاب المتفشية، تجعل الجميع في حال من التوتر . وهو وضع غير مسبوق في منطقتنا، حتى إن صراعات كبيرة سابقة في منطقتنا كالحرب الإيرانية العراقية والاعتداءات الصهيونية واسعة النطاق، لم تكن تثير ما يثيره الوضع الحالي من قلق، ذلك أن المخاطر والمحاذير تنبع هذه المرة من داخل المنطقة وتكويناتها وأجسامها الاجتماعية، حتى لو كان للخارج دور في تغذيتها، فإنها تبقى محلية المنشأ وهنا يتبدى وجه خطورتها .
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"