المشهد الأوكراني الجديد

03:48 صباحا
قراءة 5 دقائق
عبدالجليل المرهون
في تطوّر يشير إلى تسارع مطرد للأزمة الأوكرانية، قال الرئيس الأوكراني، بيوتر بوروشينكو، إن حكومته تدرس مختلف السيناريوهات لمسار الأوضاع في شرق البلاد، بما في ذلك اندلاع "حرب شاملة" مع روسيا .
وكانت الحكومة الأوكرانية قد أعلنت أنه سيجري إنفاق نحو ثلاثة مليارات دولار على إعادة تجهيز الجيش في الفترة بين عامي 2015 و2017 . كما أشارت إلى أن دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) قد بدأت في تسليم أسلحة ومعدات عسكرية للجيش الأوكراني . وفي مطلع مايو/أيار الماضي، قررت سلطات كييف استدعاء المواطنين للخدمة العسكرية .
وكان الرئيس الأوكراني الأسبق، فيكتور يانوكوفيتش، قد وقّع في أكتوبر/تشرين الأول من العام 2013 مرسوماً ألغى بموجبه نظام الخدمة العسكرية الإلزامية، لمصلحة الخدمة في الجيش عبر التعاقد .
وفي أبرز محاولات السيطرة على الأزمة، وقّعت الحكومة الأوكرانية والجماعات المسلحة في شرق البلاد، في 20 سبتمبر/أيلول ،2014 مذكرة وقف إطلاق نار، أريد لها أن تدفع باتجاه إعادة إنتاج واقع أقل عنفاً .
وقد نص الاتفاق، ضمن أمور أخرى، على إقامة منطقة منزوعة السلاح، على عرض ثلاثين كيلومتراً، وعدم دخول كافة المجموعات المسلحة والمقاتلين والمعدات العسكرية إلى هذه المنطقة، وسحب المدفعية الثقيلة من الجانبين لمسافة 15 كيلومتراً .
وعلى الرغم من ذلك، فإن هذا الاتفاق جرى خرقه منذ الأيام الأولى، ولم يعد موضع ثقة أي من أطراف القتال .
وفي الأصل، لم يشمل هذا الاتفاق منطقتي لوغانسك ودونيتسك، اللتين أعلن دعاة الفيدرالية من جانب واحد عن إقامة دولتين مستقلتين فيهما .
وقبل أيام على هذا الاتفاق، كان البرلمان الأوكراني قد أقر قانوناً يمنح المناطق الشرقية الخاضعة لسيطرة دعاة الفيدرالية "وضعاً خاصاً"، ينطوي على قدر من الحكم الذاتي لفترة ثلاث سنوات . بيد أن دعاة الفيدرالية رفضوا هذا العرض، واعتبروا أنه لا يعنيهم في شيء . وهذا الشهر، جرت "انتخابات رئاسية" في مقاطعتي دونيتسك ولوغانسك، اللتين أعلنتا جمهوريتين مستقلتين من جانب واحد . وقد أعلن "الرئيسان" المنتخبان زاخار تشينكو وبلوت نيتسكي، عن استعدادهما للحوار مع سلطات كييف للوصول إلى تسوية سياسية على أسس جديدة .
وقد أفرز الصراع وضعاً انسانياً كارثياً، إن من حيث القتلى والإصابات، أو التشرّد والنزوح الداخلي والخارجي، أو تدهور الأحوال المعيشية والحياتية للسكان .
ووفقاً لبيانات الأمم المتحدة، فقد أسفر الصراع عن قتل أكثر من أربعة آلاف شخص . وذلك منذ أن شنت القوات الأوكرانية عمليتها العسكرية ضد دعاة الفيدرالية في إبريل/نيسان 2014 .
وجاء في تقرير نشره مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، في 31 أكتوبر/تشرين الأول ،2014 أنه بحلول التاسع والعشرين من ذلك الشهر بلغ عدد القتلى في شرق أوكرانيا ما لا يقل عن 4035 شخصاً (بمن فيهم 289 قتلوا في تحطم طائرة "بوينغ" الماليزية)، إضافة إلى إصابة 9336 بجروح .
وتشير الأمم المتحدة كذلك إلى أن عدد النازحين داخلياً من جراء النزاع المسلح قد بلغ 442 ألف شخص، إضافة إلى 488 ألف شخص لجأوا إلى الدول المجاورة، ويوجد معظمهم حالياً في روسيا .
على الصعيد السياسي، أسفرت الانتخابات النيابية الأخيرة، التي جرت في أوكرانيا، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، عن فوز القوى المؤيدة للغرب بمعظم مقاعد البرلمان، ما رفع من فرص الدور الأوروبي في التأثير في مجريات الأزمة الناشبة في البلاد، والتأثير في السياسة الأوكرانية عامة .
وقد تصدّرت الجبهة الشعبية، بزعامة رئيس الوزراء أرسيني ياتسينيوك، القائمة البرلمانية بحصولها على 14 .22% من الأصوات، وجاءت بعدها كتلة الرئيس بيترو بوروشينكو، التي حصلت على 18 .21% . أما بقية الأصوات فتقاسمتها أربعة أحزاب أخرى، منها الحزب الراديكالي (44 .7%)، وحزب الوطن ("باتكيفشينا") بزعامة رئيسة الوزراء السابقة يوليا تيموشينكو (68 .5%) .
وبطبيعة الحال، فإن هذه النتائج لن تعكس نفسها على الدور الأوروبي وحسب، بل على مجمل الخيارات الداخلية والخارجية للدولة الأوكرانية .
وبالأمس، كان قد أطيح بالرئيس فيكتور يانوكوفيتش، قبل إتمام فترته الرئاسية، لأنه رفض توقيع اتفاقية اقتصادية مع الاتحاد الأوروبي، أو تحفظ مرحلياً عليها، كحد أدنى .
والقضية هنا لم تكن تتعلق بالاتفاقية بحد ذاتها، بل بمغزاها السياسي، على صعيد لعبة التوازنات داخلياً وخارجياً، بين الأوكرانيين الغربيين والشرقيين، كما بين الغرب وروسيا .
وفي لعبة النفوذ هذه، يُمكن أيضاً ملاحظة أن الرئيس الأسبق، ليونيد كوتشما، قد اعتمد سياسة توازن متعددة المحاور بين موسكو والغرب، لكنه اتجه في الأخير إلى توقيع العديد من معاهدات التعاون الاقتصادي مع روسيا . كذلك، عدّل كوتشما من العقيدة العسكرية الأوكرانية، متخلياً عن هدف الالتحاق بحلف الناتو .
وتقع أوكرانيا في مفترق الطرق لأوروبا، وتتخذ موقعاً مهماً على أعتاب الدولة الروسية . ويتأثر مستقبلها عادة بمسار العلاقة بين روسيا والغرب . وهي دولة متوسطة بالمعيار الجغرافي، حيث تتجاوز مساحتها بقليل الستمئة ألف كيلومتر مربع . وهي ثالث أكبر دول الاتحاد السوفييتي السابق، بعد روسيا ذات السبعة عشر مليون كيلومتر مربع، وكازاخستان، التي تبلغ مساحتها مليونين وسبعمئة وعشرين ألف كيلومتر، والتي تشكل ثالث أكبر دول آسيا بعد الصين والهند على التوالي .
وفي الأصل، تعتبر أوكرانيا دولة شقيقة لروسيا . وقد ظلت على مدى قرون ركناً أساسياً في القوة السلافية الأرثوذوكسية . وكانت مندمجة في روسيا منذ القرن السابع عشر .
وهناك أيضاً تشابهات عدة بين واقع الشرق الأوكراني والواقع القائم في روسيا البيضاء، التي تستمد من ماضيها مع سائر الروس (سكان أوكرانيا وروسيا) انتماءها إلى الدائرة الثقافية السلافية البيزنطية .
وعلى نحو تقليدي، شكلت التباينات العرقية والمذهبية (الكاثوليكية -الأرثوذوكسية) على مدار السنين عنصر توتر وانقسام دائمين في أوكرانيا، وصل ذروته مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، إذ انضمت مقاطعات غرب البلاد الكاثوليكية إلى جيوش هتلر، وخاضت حرباً دموية ضد الروس والأوكرانيين الشرقيين، الأمر الذي قاد بعد نهاية الحرب إلى حملة عقاب قادها ضدهم جوزيف ستالين .
ومن أصل سكانها، البالغ حالياً نحو 46 مليون نسمة، هناك أكثر من 17 مليوناً ينحدرون من أصول روسية، وتعد اللغة الروسية لغتهم الأم . وفي العام ،2004 حدثت في أوكرانيا ما عُرف "بالثورة البرتقالية"، التي كان الابتعاد عن روسيا شعاراً محورياً فيها، وقد أفرز عداء هذه الثورة لروسيا حالة من الاستقطاب الداخلي العنيف، الذي كاد يشعل حرباً أهلية شاملة .
وفي ذلك الوقت أيضاً، كانت الوحدة الترابية لأوكرانيا على كف عفريت، حيث سادت خشية من انفصال المناطق الشرقية والجنوبية .
أما الموجة الأخيرة من التوترات الروسية الأوكرانية، فقد جاءت في العام 2014 بعد الإطاحة بالرئيس فيكتور يانوكوفيتش، حليف موسكو الأول . وبفقده فقدت روسيا رهاناً جيوسياسياً كبيراً في أوروبا .
وهنا، كان انفصال شبه جزيرة القرم، وانضمامها للدولة الروسية، نتاجاً مشتركاً لحسابات الداخل والخارج معاً .
وترتكز روسيا في مقاربتها للمسألة الأوكرانية إلى حسابات جيوسياسية، تتصل بمستقبل دورها الدولي، ومكانتها كقوة كبرى . وهي تمتلك عدداً كبيراً من أوراق الضغط السياسي والاقتصادي، التي تجعل من تحوّل أوكرانيا إلى قوة مناوئة أمراً لا يُمكن تصوّره، أو على الأقل تصعب إدامته .
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"