في تعريف المسألة السورية

04:49 صباحا
قراءة 5 دقائق
عبدالجليل المرهون
ما الذي تعبر عنه المسألة السورية في مسارها الراهن؟ هل ثمة خوف على سورية الوطن والكيان؟ وهل نحن بصدد حدث إقليمي، عالمي التبعات؟ وما الذي يُمكن للمجتمع الدولي فعله من أجل سوريا؟
بالطبع، نحن بصدد نزاع مسلّح، يدور في نطاق جغرافي حدوده الإقليم السوري، لكن هذا النزاع ليس سورياً . هو نزاع تتشابك فيه الإرادات الإقليمية، لكنه ليس إقليمياً أيضاً .
وفي هذا النزاع، ثمة تأثيرات دولية مباشرة أو ضمنية، لكنها تبقى ثانوية، قياساً بالدور المحلي والانخراط الإقليمي .
إن التوصيف النطاقي لهذا النزاع يبقى ملتبساً في الأحوال كافة، فالجغرافيا هنا تبدو محدودة التجلي قياساً بالامتداد السياسي . بيد أن التوصيف السياسي للمسألة السورية ليس هو ذاته توصيفها الأيديولوجي، الذي يبقى واضحاً وساطعاً، لا لبس فيه .
وبين ما هو جغرافي وما هو سياسي وأيديولوجي، ثمة تعريف قانوني دولي، يبدو جامداً لا روح فيه، عاجزاً عن الإشارة إلى الواقع والدلالة على مكنوناته .
وفي المحصلة، نحن بصدد نموذج فيه الكثير من الاستثناء، الأمر الذي يستوجب بالضرورة إعادة إنتاج معرفي للعديد من المفاهيم والمصطلحات، المعتمدة تقليدياً لدى الباحثين والدارسين .
وهل ثمة خوف على سوريا الوطن والكيان؟ بالطبع، جميعنا يخاف على سوريا .
إن الخطر على سوريا يكمن في فلسفة هدم الدولة، وإعادة فرز المجتمع، وتقسيمه على أسس رأسية، دينية ومذهبية .
وهل هذا خطر داخلي أم خارجي؟
هو أمر بين أمرين . بمعنى أن هناك مخططاً يجري تنفيذه بأدوات تكفيرية محكومة بإرادة خارجية . أو هي في الحد الأدنى طيّعة ومرتهنة .
وهل في هذا القول تخوين لدعاة الإصلاح؟
بالطبع كلا . إن الناس اليوم تدرك، أكثر من أي وقت مضى، أن من حوّل الوطن إلى ساحة للقتل والتدمير، ومن تفاخر بقتل الأطفال في مدرستي عكرمة بحمص، لا يعبّر بحال من الأحوال عن نزعة إصلاحية، ولا يجسد مشروعاً ديمقراطياً .
كذلك، فإن من يسعى لفرض رؤية تكفيرية ظلامية على مجتمع عريق منفتح هو بالضرورة نقيض لهذا المجتمع، ومنفصل عنه نفسياً وثقافياً، ولا يُمكنه ادعاء تمثيله وتجسيد تطلعاته .
إن القوى السورية الطليعية، التي تجد ذاتها في دمشق الفيحاء وقاسيون وبردى، هي من تُمثل السوريين، وتترجم تطلعاتهم . وهذه القوى تُمثل رصيداً وطنياً، لا عبئاً على الوطن .
وعليه، لا بد من تسمية الأشياء بمسمياتها . المعارضة الوطنية حاجة لا غنى عنها . أما من يحترف القتل، أو يمتهن التكفير، فهو لا يُمثل السوريين، ولا يُعبر عن ضميرهم وثقافتهم .
بعد ذلك، هل ما يجري في سوريا اليوم حدث محلي تتداخل فيه مؤثرات إقليمية متزايدة؟ أو هو صراع إقليمي يدور على أرض سوريا؟ أو هو في الأصل أزمة إقليمية، بنيوية الطابع، وجدت تجلياتها على هذه الأرض، بعد أن جرى تفجيرها بداية بعود ثقاب ناعم؟
قد يكون كل ذلك صحيح . ويُمكن للمحلل أن يجد من المعطيات ما يدعم بها أي من الفرضيات السابقة .
إن الحد الأدنى المشترك بين كل هذه الفرضيات هو أن الحدث السوري قد خرج عن نطاقه المحلي، وبات له قدر متعاظم من المفاعيل والامتدادات الإقليمية، التي لم يعد بالمقدور الفصل بينها وبين الحدث الأصلي ذاته .
وبهذا المعنى، يُمكن القول، على الصعيد التحليلي، إن الحدث السوري يترجم اليوم صراعاً إقليمياً من دون أن ينحصر فيه . أو لنقل إن هذا الصراع لا يلغي البعد المحلي للحدث، وبالطبع لا يتفوق عليه .
وماذا عن البعد الدولي؟
هل هذا البعد يُعد امتداداً للبعد الإقليمي ذاته، أو هو في الأصل مؤسساً له؟
بالطبع، هو ليس امتداداً، وقد يكون مؤسساً في بعض الحالات، لكنه مؤطِراً في المجمل . وهذا التأطير قد يكون رؤيوياً عاماً وقد يكون تفاعلياً، أو حتى توجيهياً .
وفي حالة أخرى، فإن البعد الدولي قد يُشكل بُعداً مرجعياً بالضرورة . وهذا ينطبق على السياسات التي تستند فيها الأطراف الإقليمية إلى قرارات صادرة عن مجلس الأمن الدولي .
كذلك، فإن البعد الدولي قد يكون بُعداً غير مرئي، بمعنى أن القوى الدولية تمارس تأثيراً ضمنياً، بالضغط أو الإغراء، لحث قوى إقليمية معينة على اعتماد مواقف ومقاربات محددة تجاه الحدث السوري .
وأياً يكن الأمر، فإن الصراع السياسي، في المنتهى، ليس فعلاً ميكانيكياً لا محتوى قيميّاً له . إنه صراع إرادات بالضرورة . وغالباً ما يترجم تناقضاً في الرؤى الأيديولوجية . وهذا بالتحديد ما يحدث في سوريا .
وبعد ذلك، ليس مهماً كثيراً التوقف عند التوصيف النطاقي للصراع، سواء الجغرافي منه، أو الجيوسياسي الممتد حكماً في حسابات النفوذ .
في المضمون القيَمي، هناك مشروع تكفيري عابر للأقطار والأقاليم، مموّه أيديولوجياً وسياسياً، لكنه صريح في عدائه للمجتمع وبيئته الحضارية والثقافية .
وفي حسابات السياسة والأمن معاً، فإن التكفير يعني ضرب الأمة من داخلها، والعمل على تفجيرها ذاتياً .
وقد يقول قائل إن القوى التكفيرية ليست قوى تقسيمية، كونها تنادي بجمع المسلمين في دولة واحدة .
هذه غواية كبرى، لأن وحدة الأرض تبدأ بالضرورة بوحدة المجتمع . ومنطق التكفير والإلغاء لا يقود إلى وحدة الأمة، بل إلى تمزيق مجتمعاتها، حتى في إطار القطر الواحد .
وفي الأحوال كافة، ثمة حرب تستهدف الإنسان وحضارته، تدور رحاها اليوم على الأرض السورية .
في هذه الحرب، هناك خاسرون كثر، في الداخل والخارج . ويُمكن الحديث عن أكثر الخاسرين وأقلهم . ولكن لا يُمكن، بأي حال من الأحوال، الحديث عن رابح في السياسة أو الأخلاق، غير أولئك المدافعين عن قيمهم وثقافتهم المهددة . هؤلاء، سوف يربحون الرهان في نهاية الطريق، لأنهم أصحاب حق، حتى وإن كثرت قوافل شهدائهم .
والسؤال الذي يفرض نفسه الآن، هو: ما الذي يُمكن للمجتمع الدولي فعله من أجل سوريا، التي من دون استقراها يتهاوى بالضرورة الأمن الإقليمي؟
إن الإجابة عن هذا السؤال تتباين بالضرورة وفقاً لتباين المواقع الفكرية والمنهجية .
وعلى الرغم من ذلك، فإن القاسم المشترك الذي يفترض أن يكون موضع إجماع الفرقاء المختلفين في المجتمع الدولي هو ضرورة الدفع باتجاه التسوية السياسية، والتخلي عن أوهام الحل العسكري، ذلك أن كافة الرهانات على هذا الحل قد أثبتت عجزها وعقمها، ليس لاعتبارات ميدانية وحسب، بل لأن المواطن السوري لم يعد يرى في هذا النهج سوى طريق لتدمير الوطن .
ولكن كيف يدفع المجتمع الدولي باتجاه الحل السياسي؟
هذا الأمر، يبدأ بالضرورة بالتخلي عن منطق القوة، وعدم السير باتجاه تعظيم المضامين الأمنية للأزمة، أو رفع منسوب العسكرة فيها .
هذه هي مقدمات المسار السياسي، بعد ذلك، فإن المجتمع الدولي معني بجمع مختلف الفرقاء المحليين حول طاولة واحدة، على أن يأتي اختياره لهؤلاء بعيداً عن الاستنسابية والتسييس، ويكون المعيار الذي يجري في ضوئه الاختيار هو مدى الحضور الحقيقي لهذه القوى في الساحة الوطنية، ورفضها منطق الإرهاب والتكفير .
عند هذه النقطة، تنتهي مبدئياً مهمة المجتمع الدولي . ويبقى الأمر منوطاً بحوار وطني داخلي، تدعم مساره المؤسسات الدولية المختلفة، من أجل ضمان نجاحه، ووصوله إلى مقاصده النهائية . وهنا، يكون المجتمع الدولي قد تحوّل من دور الوسيط إلى دور الداعم للحلول والمقاربات التي يرتضيها السوريون انطلاقاً من حوارهم الداخلي .
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"