الود العائد بين ضفتي الأطلسي

05:23 صباحا
قراءة 3 دقائق
عاصم عبد الخالق

الصدفة وحدها على الأرجح هي التي جمعت بين موعدي الذكرى السبعين لبدء مشروع مارشال الأمريكي لإعادة أعمار أوروبا، وانطلاق جولات المباحثات الأوروبية - الأمريكية المكثفة خلال الأسبوع الماضي. اللقاءات التي امتدت ما بين واشنطن وبروكسل تشير ولو ظاهرياً إلى أن العلاقات بين الشريكين تستعيد حميميتها التقليدية، وأن الجليد الذي تراكم بين ضفتي الأطلسي في العام الأول من رئاسة دونالد ترامب بدأ في الذوبان أخيراً.
توصف العلاقات الأمريكية - الأوروبية دائماً بأنها كالزواج الكاثوليكي لا انفصال فيه. وعبر تاريخها كانت هناك محطات بارزة أكدت خصوصية هذه العلاقات وأبديتها. إحدى هذه المحطات تمثّلت في المساهمة الأمريكية السخية لإعادة إعمار أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية. في الثالث عشر من هذا الشهر عام 1948 أطلقت واشنطن أكبر خطة مساعدات خارجية في التاريخ باسم «برنامج الإنعاش الأوروبي» الذي عرف بعد ذلك بخطة مارشال، نسبة إلى واضعها الجنرال جورج مارشال رئيس الأركان الأمريكي خلال الحرب، ثم وزير الخارجية اعتباراً من يناير 1947. وقد أعلن مارشال خطته في يونيو من العام نفسه، ثم تقرر تطبيقها لمدة أربع سنوات اعتباراً من إبريل 1949 بقيمة 13 مليار دولار، وهو مبلغ يماثل بأسعار اليوم 135 مليار دولار وفقاً لتقدير معهد كارنيجي الأمريكي.
وتحت جسور الصداقة والتحالف التي مدها مارشال على جانبي الأطلسي، جرت مياه كثيرة منذ ذلك الوقت وحتى الأسبوع الماضي، عندما استقبل الرئيس ترامب نظيره الفرنسي في واشنطن، وسط حفاوة غير تقليدية. ثم تبعه لقاء آخر مع المستشارة الألمانية في واشنطن أيضاً. وبينهما كان وزير خارجيته الجديد مايك بومبيو قد حط رحاله في بروكسل لحضور اجتماعات الناتو بعد 12 ساعة فقط من أداء اليمين الدستورية. ثم كان الإعلان عن زيارة مرتقبة لترامب نفسه إلى لندن.
وبقدر ما توحي به هذه اللقاءات الأوروبية - الأمريكية المكثفة من عودة الود إلى العلاقات، فإنها تكشف أيضاً عن حجم القضايا المعلّقة والخطيرة التي تستوجب إجراء كل تلك المباحثات على أعلى مستوى بينهما. بتعبير غير دبلوماسي، لا يخفى على قريب أو بعيد حجم الخلافات العميقة بين أمريكا وبلدان أوروبية، خاصة ألمانيا وفرنسا حول ملفات مهمة. كما لا يخفى أن الجانبين يحاولان ترميم الدمار الذي تعرّضت له علاقاتهما في العام الأول لرئاسة ترامب بفعل تصريحاته ومواقفه الصادمة لحلفائه الأوروبيين.
لا ينسى قادة القارة العجوز الأوقات الصعبة التي قضوها خلال ذلك العام، عندما بدأ ترامب يصدّمهم بمواقفه المنسجمة مع شعاره «أمريكا أولاً». فكان انسحابه من اتفاق باريس للمناخ، وتعثر مفاوضات الشراكة التجارية، ثم اعتزامه الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، ورغبته في الانسحاب من سوريا، ومطالبته لأوروبا بزيادة إنفاقها الدفاعي، ورفضه الإقرار بمبدأ الدفاع المشترك المنصوص عليه في اتفاق الناتو، وعلى أساس أن العدوان على عضو هو عدوان على كل الأعضاء ويستوجب ردهم. ثم كان وصفه للحلف نفسه بأنه عفا عليه الزمن، وترحيبه بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وضغوطه لمواقف أكثر تشدداً تجاه روسيا.
هدأت بعد ذلك عاصفة ترامب تدريجياً، إلا أن الخلافات بقيت وما زالت قائمة حول تلك الملفات، لتجسد وقعاً جديداً يشي بأن زمن تطابق المواقف انتهى بالفعل، وهو ما لخّصته مجلة «نيوزويك الأمريكية» ذات مرة بقولها إن العلاقات بين شطري الأطلسي تغيّرت عبر الزمن، وعلى أوروبا الاعتراف بهذه الحقيقة. لا يعني ذلك حدوث انفصال، فلن تستقل أوروبا أو تخرج من مظلة الدفاع الأمريكية.
ولكن سيبقى هناك صدع في جسور التقارب بين الضفتين الأوروبية والأمريكية. وحتى لو أمكن إصلاح الأضرار التي تسبب فيها ترامب عندما يرحل، فإن الحليفين لن يكون بوسعهما إنكار حقيقية تاريخية تقول إن المسافة بين ضفتي المحيط آخذة في الاتساع.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"